فصل: إهداء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


أنموذج

التّعريف

1- للأنموذج معانٍ منها‏:‏ أنّه ما يدلّ على صفة الشّيء، كأن يري إنسان إنساناً صاعاً من صبرة قمحٍ مثلاً، ويبيعه الصّبرة على أنّها من جنس ذلك الصّاع‏.‏ ويقال له أيضاً نموذج‏.‏ قال الصّغائيّ‏:‏ النّموذج‏:‏ مثال الشّيء الّذي يعمل عليه، وهو معرّب‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - البرنامج‏:‏

2 - البرنامج‏:‏ هو الورقة الجامعة للحساب وهو معرّب ‏"‏ برنامه ‏"‏‏.‏

وفي المغرب‏:‏ هي النّسخة المكتوب فيها عدد الثّياب والأمتعة وأنواعها المبعوث بها من إنسانٍ لآخر‏.‏ فالبرنامج هي تلك النّسخة الّتي فيها مقدار المبعوث، ومنه قول السّمسار‏:‏ إنّ وزن الحمولة في البرنامج كذا‏.‏

ونصّ فقهاء المالكيّة على أنّ البرنامج‏:‏ هو الدّفتر المكتوب فيه صفة ما في الوعاء من الثّياب المبيعة‏.‏ وللتّفصيل ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏برنامج‏)‏‏.‏

ب - الرّقم‏:‏

3 - الرّقم‏:‏ من رقّمت الشّيء إذا أعلمته بعلامةٍ تميّزه عن غيره كالكتابة ونحوها‏.‏

وفسّره الحنفيّة في قولهم البيع بالرّقم بأنّه علامة يعرف بها مقدار ما يقع به البيع‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ بأنّه الثّمن المكتوب على الثّوب، وهو أوضح من غيره‏.‏

وللتّفصيل ينظر‏:‏ ‏(‏البيع بالرّقم‏)‏‏.‏

الحكم الإجمالي

4 - أورد الحنفيّة في كتاب البيوع أنّ البيع ينعقد بالإيجاب والقبول‏.‏ وأنّه لا بدّ للعاقدين من معرفة المبيع معرفةً نافيةً للجهالة المفضية للمنازعة‏.‏

فإن كان المبيع حاضراً اكتفي بالإشارة إليه، لأنّها موجبة للتّعريف قاطعة للمنازعة‏.‏

وإن كان غائباً فإن كان ممّا يعرف بالأنموذج كالكيليّ والوزنيّ والعدديّ المتقارب فرؤية الأنموذج كرؤية الجميع إلاّ أن يختلف فيكون له خيار العيب، أو خيار فوات الوصف المرغوب فيه‏.‏ وإن كان ممّا لا يعرف بالأنموذج كالثّياب والحيوان فيذكر له جميع الأوصاف قطعاً للمنازعة ويكون له خيار الرّؤية‏.‏

كما أنّه لا بدّ كذلك من معرفة مقدار الثّمن وصفته إذا كان في الذّمّة قطعاً للمنازعة، وإن أطلق الثّمن فهو على غالب نقد البلد، وإن لم يتعاملوا بها انصرف إلى المعتاد عندهم‏.‏ ويكفي أن يرى المشتري من المبيع ما يدلّ على العلم، لأنّ رؤية جميع المبيع غير مشروطةٍ لتعذّرها كوجه صبرةٍ لا تتفاوت آحادها‏.‏ فمتى كان الأنموذج قد دلّ على ما في الصّبرة من مبيعٍ دلالةً نافيةً للجهالة، وكان ممّا لا تتفاوت آحاده، وكان الثّمن معلوماً، كان البيع به صحيحاً وبغيره لا‏.‏ هذا ما عليه الفقهاء، فقد شرطوا فيما ينعقد به البيع‏:‏ معرفة العاقدين بالمبيع والثّمن معرفةً نافيةً للجهالة، وأنّ رؤية بعض المبيع تكفي إن دلّت على الباقي فيما لا يختلف أجزاؤه اختلافاً بيّناً‏.‏

وقال الشّافعيّة في الأنموذج المتماثل المتساوي الأجزاء كالحبوب‏:‏ إنّ رؤيته تكفي عن رؤية باقي المبيع، والبيع به جائز‏.‏ وإذا أحضر البائع الأنموذج وقال‏:‏ بعتك من هذا النّوع كذا فهو باطل، لأنّه لم يعيّن مالاً ليكون بيعاً، ولم يراع شرط السّلم، ولا يقوم ذلك مقام الوصف في السّلم، لأنّ الوصف باللّفظ يرجع إليه عند النّزاع، فإن عيّن الثّمن وبيّنه جاز‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ إنّ البيع بالأنموذج لا يصحّ إذا لم ير المبيع وقت العقد، أمّا إذا رئي في وقته وكان على مثاله فإنّه يصحّ‏.‏

إنهاء

التّعريف

1 - الإنهاء في اللّغة‏:‏ يكون بمعنى الإعلام، والإبلاغ، يقال أنهيت الأمر إلى الحاكم أي أعلمته به‏.‏ ويكون بمعنى الإتمام والإنجاز‏.‏ يقال‏:‏ أنهى العمل إذا أنجزه‏.‏

وقد استعمله المالكيّة والشّافعيّة بمعنى إبلاغ القاضي قاضياً آخر بحكمه لينفّذه، أو بما حصل عنده ممّا هو دون الحكم، كسماع الدّعوى لقاضٍ آخر ليتمّمه‏.‏ ويكون إمّا مشافهةً أو بكتابٍ أو بشاهدين‏.‏ ويرجع في تفصيل ذلك إلى ‏(‏دعوى‏.‏ قضاءٍ‏)‏‏.‏

وأمّا بالمعنى الثّاني فقد استعمله الفقهاء كذلك، ويرجع إلى بحث ‏(‏إتمامٍ‏)‏‏.‏

أنوثة

التّعريف

1 - الأنوثة خلاف الذّكورة، والأنثى - كما جاء في الصّحاح وغيره من كتب اللّغة - خلاف الذّكر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أَيّها النّاسُ إنّا خلقناكم من ذَكَرٍ وَأُنْثَى‏}‏، وتجمع على إناثٍ وأناثى، وامرأة أنثى‏.‏ أي كاملة في أنوثتها‏.‏

والأنثيان‏:‏ الخصيتان‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ خصاء‏)‏‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى‏.‏ هذا، ويذكر الفقهاء للأنوثة علاماتٍ وأماراتٍ تميّزها عن الذّكورة فضلاً عن أعضاء الأنوثة، وتلك الأمارات إمّا حسّيّة كالحيض، وإمّا معنويّة كالطّباع‏.‏ وسيأتي بيان ذلك في مصطلح ‏(‏خنثى‏)‏‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الخنوثة‏:‏

2 - الخنوثة حالة بين الذّكورة والأنوثة‏.‏ وتذكر كتب اللّغة أنّ الخنثى من له ما للرّجال والنّساء جميعاً‏.‏

وأمّا عند الفقهاء، فقد قال النّوويّ‏:‏ الخنثى ضربان‏:‏ ضرب له فرج المرأة وذكر الرّجال، وضرب ليس له واحد منهما‏.‏ وللتّفصيل ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏خنثى‏)‏‏.‏

أحكام الأنوثة‏:‏

أنثى الآدميّ‏:‏

أوّلاً‏:‏ تكريم الإسلام للأنثى‏:‏

يتمثّل تكريم الإسلام للأنثى فيما يأتي‏:‏

حسن استقبالها عند ولادتها‏:‏

3 - كان استقبال الأنثى في العرب قبل الإسلام استقبالاً سيّئاً، يتبرّمون بها، وتسودّ وجوههم، ويتوارون عن الأعين، إذ هي في نظرهم مجلبة للفقر أو للعار، فكانوا يئدونها حيّةً، ويستكثر الرّجل عليها النّفقة الّتي لا يستكثرها على عبده أو حيوانه، فنهى اللّه سبحانه وتعالى المسلمين عن ذلك، وذمّ هذا الفعل الشّنيع، وبيّن أنّ من فعل ذلك فقد باء بالخسران المبين، ‏{‏قد خَسِرَ الّذين قَتَلُوا أولادَهم سَفَهَاً بغيرِ عِلْمٍ‏}‏‏.‏

ونبّه الإسلام إلى أنّ حقّ الوجود وحقّ الحياة هبة من اللّه سبحانه وتعالى لكلّ إنسانٍ من ذكرٍ أو أنثى، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يَهَبُ لمن يشاءُ إناثاً ويَهَبُ لمن يشاءُ الذّكورَ‏}‏‏.‏

قال ابن قيّم الجوزيّة‏:‏ قدّم اللّه سبحانه وتعالى ما كانت تؤخّره الجاهليّة من أمر البنات حتّى كانوا يئدونهنّ، أي هذا النّوع المؤخّر الحقير عندكم مقدّم عندي في الذّكر‏.‏

والمقصود أنّ التّسخّط بالإناث من أخلاق أهل الجاهليّة الّذين ذمّهم اللّه سبحانه وتعالى في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا بُشّرَ أحدُهم بالأُنثى ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوّداً وهو كَظيم، يتوارى من القوم من سُوءِ ما بُشّرَ به، أَيُمْسِكُه على هُونٍ أم يَدُسُّهُ في التّراب ألا ساء ما يَحْكمون‏}‏‏.‏

وقال قتادة فيما رواه الطّبريّ‏:‏ أخبر اللّه تعالى بخبث صنيعهم، فأمّا المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم اللّه له، وقضاء اللّه له خير من قضاء المرء نفسه، ولعمري ما يدري أنّه خير، لربّ جاريةٍ خير لأهلها من غلامٍ، وإنّما أخبركم اللّه بصنيعهم لتجتنبوه وتنتهوا عنه، وكان أحدهم يغذو كلبه ويئد ابنته‏.‏

والإسلام لا يكتفي من المسلم بأن يجتنب وأد البنات، بل يرتقي بالمسلم إلى درجة الإنسانيّة المثلى، فيأبى عليه أن يتبرّم بذرّيّة البنات، ويتلقّى ولادتهنّ بالعبوس والانقباض، بل يتقبّلها بالرّضى والحمد، قال صالح بن الإمام أحمد‏:‏ كان أحمد إذا ولد له ابنة يقول‏:‏ الأنبياء كانوا آباء بناتٍ، ويقول‏:‏ قد جاء في البنات ما علمت‏.‏

العقّ عنها‏:‏

4 - العقيقة عن المولود سنّة، ويستوي في السّنّة الذّكر والأنثى، فكما يعقّ الوليّ عن الذّكر يوم السّابع يعقّ عن الأنثى أيضاً، ولكن يعقّ عن الأنثى شاة، وعن الذّكر شاتان‏.‏ وينظر تفصيل ذكر في ‏(‏عقيقةٍ‏)‏‏.‏

تسميتها باسمٍ حسنٍ‏:‏

5 - من السّنّة تسمية المولود باسمٍ حسنٍ، ويستوي في ذلك الذّكر والأنثى، وكما كان النّبيّ يغيّر أسماء الذّكور من القبيح إلى الحسن، فإنّه كذلك كان يغيّر أسماء الإناث من القبيح إلى الحسن، فقد روى البخاريّ ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما «أنّ ابنةً لعمر رضي الله تعالى عنه كان يقال لها عاصية فسمّاها النّبيّ صلى الله عليه وسلم جميلة»‏.‏ والكنية من الأمور المحمودة، يقول النّوويّ‏:‏ من الأدب أن يخاطب أهل الفضل ومن قاربهم بالكنية، وقد كنّي النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأبي القاسم، بابنه القاسم‏.‏

والكنية كما تكون للذّكر تكون للأنثى‏.‏ قال النّوويّ‏:‏ روينا بالأسانيد الصّحيحة في سنن أبي داود وغيره عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت‏:‏ «يا رسول اللّه كلّ صواحبي لهنّ كنًى، قال‏:‏ فاكتنّي بابنك عبد اللّه» قال الرّاوي‏.‏ يعني عبد اللّه بن الزّبير وهو ابن أختها أسماء بنت أبي بكرٍ، وكانت عائشة تكنّى أم عبد اللّه‏.‏

لها نصيب في الميراث‏:‏

6 - جعل اللّه سبحانه وتعالى للأنثى نصيباً في الميراث كما للذّكر نصيب، وقد كانوا في الجاهليّة لا يورّثون الإناث‏.‏ قال سعيد بن جبيرٍ وقتادة‏:‏ كان المشركون يجعلون المال للرّجال الكبار ولا يورّثون النّساء ولا الأطفال شيئاً، فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لِلرّجالِ نصيبٌ ممّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأقربونَ وللنّساءِ نصيبٌ ممّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأقربونَ مِمّا قلّ منه أو كَثُرَ نصيباً مفروضاً‏}‏ أي الجميع فيه سواء في حكم اللّه تعالى يستوون في أصل الوراثة وإن تفاوتوا بحسب ما فرض اللّه لكلٍّ منهم‏.‏

وقال الماورديّ في تفسيره‏:‏ سبب نزول هذه الآية أنّ أهل الجاهليّة كانوا يورّثون الذّكور دون الإناث، فروى ابن جريجٍ عن عكرمة قال‏:‏ «نزل قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏للرّجال نصيب‏}‏‏.‏ الآية في أمّ كجّة وبناتها وثعلبة وأوس بن سويدٍ وهم من الأنصار، وكان أحدهما زوجها والآخر عمّ ولدها، فقالت‏:‏ يا رسول اللّه توفّي زوجي وتركني وابنته ولم نُوَرّثْ، فقال عمّ ولدها يا رسول اللّه‏:‏ ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلّاً، ولا يَنْكأ عدوّاً يُكْسب عليها ولا تَكْسِب فنزلت هذه الآية»‏.‏

وورد كذلك في سبب نزول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُوصيكم اللّهُ في أولادِكم لِلذّكرِ مثْلُ حَظِّ الأُنثيين‏}‏ ما روي عن جابرٍ قال‏:‏ «جاءت امرأة سعد بن الرّبيع إلى رسول اللّه فقالت‏:‏ يا رسول اللّه هاتان ابنتا سعد بن الرّبيع، قتل أبوهما معك في يوم أحدٍ شهيداً، وإنّ عمّهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً، ولا ينكحان إلاّ ولهما مال فقال‏:‏ يقضي اللّه في ذلك، فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى عمّهما فقال‏:‏ أعط ابنتي سعدٍ الثّلثين، وأمّهما الثّمن، وما بقي فهو لك»‏.‏

رعاية طفولتها، وعدم تفضيل الذّكر عليها‏:‏

7 - يعتني الإسلام بالأنثى في كلّ أطوار حياتها فيرعاها وهي طفلة، ويجعل رعايتها ستراً من النّار وسبيلاً إلى الجنّة‏.‏ فقد روى مسلم والتّرمذيّ عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من عال جارتين حتّى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو، وضمّ أصابعه»‏.‏

ولا يجوز أن يفضّل الذّكر عليها في التّربية والعناية، فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏«من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده ‏(‏يعني الذّكور‏)‏ عليها أدخله اللّه الجنّة»‏.‏ وعن أنسٍ «أنّ رجلاً كان جالساً مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فجاء ابن له فقبّله وأجلسه في حجره، ثمّ جاءت بنته فأخذها فأجلسها إلى جنبه فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ فما عَدَلْتَ بينهما»‏.‏ وفي الفتاوى الهنديّة‏:‏ لا يجوز تفضيل الذّكر على الأنثى في العطيّة، وقال المالكيّة‏:‏ يبطل الوقف إذا وقف على بنيه الذّكور دون بناته، لأنّه من عمل الجاهليّة‏.‏ وتشمل العناية بها في طفولتها تأهيلها لحياتها المستقبلة، فيستثنى ممّا يحرم من الصّور صور لعب البنات فإنّها لا تحرم، ويجوز استصناعها وصنعها وبيعها وشراؤها لهنّ، لأنّهنّ يتدرّبن بذلك على رعاية الأطفال، وقد «كان لعائشة رضي الله تعالى عنها جوارٍ يلاعبنها بصور البنات المصنوعة من نحو خشبٍ، فإذا رأين الرّسول صلى الله عليه وسلم يستحين منه ويتقمّعن، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يشتريها لها»‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ تصوير‏)‏‏.‏

إكرام الأنثى حين تكون زوجةً‏:‏

8 - أمر اللّه تعالى بإحسان معاشرة الزّوجة فقال‏:‏ ‏{‏وعاشِرُوهُنَّ بالمعروف‏}‏ قال ابن كثيرٍ‏:‏ أي طيّبوا أقوالكم لهنّ، وحسّنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحبّ ذلك منها فافعل أنت بها مثله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولهنّ مِثْلُ الّذي عليهنّ بالمعروف‏}‏‏.‏ وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»، وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنّه جميل العشرة دائم البشر، يداعب أهله ويتلطّف بهم ويوسّع عليهم في النّفقة ويضاحك نساءه، حتّى أنّه كان يسابق عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها يتودّد إليها بذلك، «قالت‏:‏ سابقني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسبقته وذلك قبل أن أحمل اللّحم، ثمّ سابقته بعدما حملت اللّحم فسبقني فقال‏:‏ هذه بتلك»، و «كان إذا صلّى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام»‏.‏

وينبغي الصّبر على الزّوجة حتّى لو كرهها، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فإنْ كَرِهْتمُوهنّ فعسى أن تَكْرهوا شيئاً ويجعَلَ اللّه فيه خيراً كثيراً‏}‏ قال ابن كثيرٍ، أي فعسى أن يكون صبركم في إمساكهنّ مع الكراهة فيه خير كثير لكم في الدّنيا والآخرة، كما قال ابن عبّاسٍ‏:‏ هو أن يعطف عليها فيرزق منها ولداً ويكون في ذلك الولد خير كثير، وفي الحديث الصّحيح‏:‏ «لا يفرك مؤمن مؤمنةً، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر»‏.‏

هذا، وحقوق الزّوجة على زوجها مبسوطة في باب النّكاح من كتب الفقه، ونذكر هنا مثلاً واحداً ممّا ذكره الفقهاء، يتّصل بإكرام أمومة الأنثى، فقد أكثر النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الوصاية بالأمّ وقدّمها في الرّعاية على الأب، روى البخاريّ ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه مَنْ أحقّ بِحُسْن صحابتي‏؟‏ قال‏:‏ أمّك، قال‏:‏ ثمّ من‏؟‏ قال‏:‏ أمّك، قال‏:‏ ثمّ من‏؟‏ قال‏:‏ أمّك، قال‏:‏ ثمّ من‏؟‏ قال‏:‏ أبوك»‏.‏ وجعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم رضاها طريقاً إلى الجنّة، فقد قال رجل‏:‏ «يا رسول اللّه أردت الغزو وجئت أستشيرك، فقال‏:‏ فهل لك من أمٍّ‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فالزمها، فإنّ الجنّة عند رجليها»‏.‏

ثانياً‏:‏ الحقوق الّتي تتساوى فيها مع الرّجل

تتساوى المرأة والرّجل في كثيرٍ من الحقوق العامّة مع التّقييد في بعض الفروع بما يتلاءم مع طبيعتها‏.‏ وفيما يأتي بعض هذه الحقوق‏:‏

أ - حقّ التّعليم‏:‏

9- للمرأة حقّ التّعليم مثل الرّجل‏:‏ فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «طلب العلم فريضة على كلّ مسلمٍ»‏.‏ وهو يصدق على المسلمة أيضاً، فقد قال الحافظ السّخاويّ‏:‏ قد ألحق بعض المصنّفين بآخر هذا الحديث ‏(‏ومسلمةٍ‏)‏ وليس لها ذكر في شيءٍ من طرقه وإن كان معناها صحيحاً‏.‏

وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من كانت له بنت فأدّبها فأحسن أدبها، وعلّمها فأحسن تعليمها، وأسبغ عليها من نعم اللّه الّتي أسبغ عليه كانت له ستراً أو حجاباً من النّار»‏.‏ وقد كان النّساء في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسعين إلى العلم‏.‏ روى البخاريّ عن أبي سعيدٍ الخدريّ قال‏:‏ «قالت النّساء للنّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ غلبنا عليك الرّجال فاجعل لنا يوماً من نفسك، فواعدهنّ يوماً لقيهنّ فيه فوعظهنّ وأمرهنّ»‏.‏ وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ «نعم النّساء نساء الأنصار لم يمنعهنّ الحياء أن يتفقّهن في الدّين»‏.‏ وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مروا أولادكم بالصّلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشرٍ، وفرّقوا بينهم في المضاجع»‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ والحديث يتناول بمنطوقه الصّبيّ والصّبيّة، وأنّه لا فرق بينهما بلا خلافٍ، ثمّ قال النّوويّ‏:‏ قال الشّافعيّ والأصحاب رحمهم اللّه تعالى‏:‏ على الآباء والأمّهات تعليم أولادهم الصّغار الطّهارة والصّلاة والصّوم ونحوها، وتعليمهم تحريم الزّنى واللّواط والسّرقة، وشرب المسكر والكذب والغيبة وشبهها، وأنّهم بالبلوغ يدخلون في التّكليف، وهذا التّعليم واجب على الصّحيح، وأجرة التّعليم تكون في مال الصّبيّ، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته، وقد جعل الشّافعيّ والأصحاب للأمّ مدخلاً في وجوب التّعليم، لكونه من التّربية وهي واجبة عليها كالنّفقة‏.‏

ومن العلوم غير الشّرعيّة ما يعتبر ضرورةً بالنّسبة للأنثى كطبّ النّساء حتّى لا يطّلع الرّجال على عورات النّساء‏.‏ جاء في الفتاوى الهنديّة‏:‏ امرأة أصابتها قرحة في موضعٍ لا يحلّ للرّجل أن ينظر إليه، لا يحلّ أن ينظر إليها، لكن يعلّم امرأةً تداويها، فإن لم يجدوا امرأةً تداويها ولا امرأةً تتعلّم ذلك إذا علّمت، وخيف عليها البلاء أو الوجع أو الهلاك فإنّه يستر منها كلّ شيءٍ إلاّ موضع تلك القرحة، ثمّ يداويها الرّجل، ويغضّ بصره ما استطاع إلاّ عن ذلك الموضع‏.‏

10- وإذن، فلا خلاف في مشروعيّة تعليم الأنثى‏.‏ لكن في الحدود الّتي لا مخالفة فيها للشّرع وذلك من النّواحي الآتية‏:‏

أ - أن تحذر الاختلاط بالشّباب في قاعات الدّرس، فلا تجلس المرأة بجانب الرّجل، «فقد جعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم للنّساء يوماً غير يوم الرّجال يعظهنّ فيه»، بل حتّى في العبادة لا يخالطن الرّجال، بل يكن في ناحيةٍ منهم يستمعن إلى الوعظ ويؤدّين الصّلاة، ولا يجب استحداث مكان خاصٍّ لصلاتهنّ، أو إقامة حاجزٍ بين صفوفهنّ وصفوف الرّجال‏.‏

ب - أن تكون محتشمةً غير متبرّجةً بزينتها لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يُبْدِين زِينَتَهنّ إلاّ ما ظَهَرَ منها‏}‏ وفي اتّباع ذلك ما يمنع من الفتنة ومن إشاعة الفساد‏.‏

ب - أهليّتها للتّكاليف الشّرعيّة‏:‏

11 - المرأة أهل للتّكاليف الشّرعيّة مثل الرّجل، ووليّ أمرها مطالب بأمرها بأداء العبادات، وتعليمها لها منذ الصّغر، لما جاء في قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم «مروا أولادكم بالصّلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشرٍ، وفرّقوا بينهم في المضاجع» والحديث يتناول الأنثى بلا خلافٍ كما قال النّوويّ‏.‏

وهي بعد البلوغ مكلّفة بالعبادات من صلاةٍ وصومٍ وزكاةٍ وحجٍّ، وليس لأحدٍ - زوجٍ أو غيره - منعها من أداء الفرائض‏.‏ فجملة العقائد والعبادات والأخلاق والأحكام الّتي شرعها اللّه للإنسان يستوي في التّكليف بها والجزاء عليها الذّكر والأنثى‏.‏

يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ عمل صالحاً مِنْ ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فَلَنُحْيِيَنّهُ حياةً طَيّبةً وَلَنَجزِينّهم أجرَهم بأحسنِ ما كانوا يعملون‏}‏‏.‏ ويؤكّد اللّه سبحانه وتعالى هذا المعنى في قوله‏:‏ ‏{‏إنّ المسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ والقانتينَ والقانتاتِ والصّادقينَ والصّادقاتِ والصّابرينَ والصّابراتِ والخاشعينَ والخاشعاتِ والمتصدّقينَ والمتصدّقاتِ والصّائمينَ والصّائماتِ والحافظينَ فروجَهُم والحافظاتِ والذّاكرينَ اللّه كثيراً والذّاكراتِ أعدّ اللّه لهم مغفرةً وأجراً عظيماً‏}‏ ويروى في سبب نزول هذه الآية أنّ ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال‏:‏ «قال النّساء للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ما له يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات، فنزلت»‏.‏ وعن أمّ سلمة أنّها قالت‏:‏ «قلت يا رسول اللّه‏:‏ أيذكر الرّجال في كلّ شيءٍ ولا نذكر‏؟‏‏!‏، فنزلت هذه الآية»‏.‏

وفي استجابة اللّه تعالى لسؤال المؤمنين قال‏:‏ ‏{‏فاستجابَ لهم ربُّهم أَنّي لا أُضِيعُ عملَ عاملٍ منكم مِنْ ذكرٍ أو أنثى بعضُكم من بعضٍ‏}‏‏.‏ ولقد روي في سبب نزولها ما روي في سبب نزول الآية السّابقة، ويقول ابن كثيرٍ‏:‏ ‏{‏بعضكم من بعضٍ‏}‏ أي جميعكم في ثوابي سواء‏.‏ وبيّن اللّه سبحانه وتعالى أنّ الّذي يؤذي المؤمنات هو في الإثم كمن يؤذي المؤمنين، يقول اللّه تعالى ‏{‏والّذين يُؤْذُون المؤمنينَ والمؤمناتِ بغيرِ ما اكتسبوا فقد احتَمَلوا بُهتاناً وإثْماً مبيناً‏}‏‏.‏

وهي مطالبة بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر كالرّجل، يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضُهم أولياءُ بعضٍ يأمرونَ بالمعروفِ ويَنْهون عن المنكر ويقيمونَ الصّلاةَ ويُؤْتون الزّكاةَ ويُطيعونَ اللّهَ ورسولَه أولئك سَيَرْحمهم اللّهُ إنّ اللّهَ عزيزٌ حكيمٌ‏}‏‏.‏

والجهاد كذلك يتعيّن على المرأة إذا هاجم العدوّ البلاد‏.‏ يقول الفقهاء‏:‏ إذا غشي العدوّ محلّة قومٍ كان الجهاد فرض عينٍ على الجميع ذكوراً وإناثاً وتخرج المرأة بغير إذن الزّوج، لأنّ حقّ الزّوج لا يظهر في مقابلة فرض العين‏.‏

وقد خفّف اللّه عنها في العبادات في فترات تعبها من الحيض والحمل والنّفاس والرّضاع‏.‏ وتنظر الأحكام الخاصّة بذلك في ‏(‏حيض، حمل، نفاس، رضاع‏)‏‏.‏

ج - احترام إرادتها‏:‏

12 - للأنثى حرّيّة الإرادة والتّعبير عمّا في نفسها، وقد منحها اللّه سبحانه وتعالى هذا الحقّ الّذي سلبته منها الجاهليّة وحرمتها منه، فقد كانت حين يموت زوجها لا تملك من أمر نفسها شيئاً، وكان يرثها من يرث مال زوجها‏.‏ روى البخاريّ عن ابن عبّاسٍ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا لا يَحلّ لكم أن تَرِثُوا النّساءَ كَرْهاً‏}‏ قال‏:‏ كانوا إذا مات الرّجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوّجها وإن شاءوا زوّجوها، وإن شاءوا لم يزوّجوها فهم أحقّ بها من أهلها‏.‏ فنزلت هذه الآية، وقال زيد بن أسلم كان أهل يثرب إذا مات الرّجل منهم في الجاهليّة ورث امرأته من يرث ماله، وكان يعضلها حتّى يرثها أو يزوّجها من أراد، وكان أهل تهامة يسيء الرّجل صحبة المرأة حتّى يطلّقها ويشترط عليها ألاّ تنكح إلاّ من أراد حتّى تفتدي منه ببعض ما أعطاها، فنهى اللّه المؤمنين عن ذلك‏.‏

وقال ابن جريجٍ‏:‏ نزلت هذه الآية في كبيشة بنت معن بن عاصم بن الأوس، توفّي عنها أبو قيس بن الأسلت، فجنح عليها ابنه، فجاءت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ «يا رسول اللّه لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تركت فأنكح، فأنزل اللّه هذه الآية»‏.‏

قال ابن كثيرٍ‏:‏ فالآية تعمّ ما كان يفعله أهل الجاهليّة، وكلّ ما كان فيه نوع من ذلك‏.‏

وإرادتها كذلك معتبرة في نكاحها، فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاريّ‏:‏ «لا تنكح الأيّم حتّى تُسْتَأْمر، ولا تنكح البكر حتّى تُسْتَأذن»‏.‏

والاستئمار في حقّ الثّيّب الكبيرة العاقلة واجب باتّفاق الفقهاء، وإذا زوّجت بغير إذنها فنكاحها موقوف على إجازتها، على ما هو معلوم في باب النّكاح‏.‏

وهو في حقّ البكر البالغة العاقلة مستحبّ عند جمهور الفقهاء‏.‏

روي عن عطاءٍ قال‏:‏ «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستأمر بناته إذا أنكحهنّ»‏.‏ واستئذانها واجب عند الحنفيّة‏.‏ بل إنّها يجوز لها تزويج نفسها عند الحنفيّة‏.‏ جاء في الاختيار‏:‏ عبارة النّساء معتبرة في النّكاح، حتّى لو زوّجت الحرّة العاقلة البالغة نفسها جاز، وكذلك لو زوّجت غيرها بالولاية أو الوكالة، وكذا إذا وكّلت غيرها في تزويجها، أو زوّجها غيرها فأجازت، وهذا قول أبي حنيفة وزفر والحسن وظاهر الرّواية عن أبي يوسف، ويستدلّون بما في البخاريّ «أنّ خنساء بنت حزامٍ أنكحها أبوها وهي كارهة، فردّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم» وروي أنّ امرأةً زوّجت بنتها برضاها فجاء الأولياء وخاصموها إلى عليٍّ رضي الله تعالى عنه فأجاز النّكاح‏.‏ هذا دليل الانعقاد بعبارة النّساء، وأنّه أجاز النّكاح بغير وليٍّ، لأنّهم كانوا غائبين، لأنّها تصرّفت في خالص حقّها، ولا ضرر فيه لغيرها فينفذ، كتصرّفها في مالها‏.‏

هذا ما انفرد به الحنفيّة، وتفصيل الخلاف في هذا ينظر في ‏(‏نكاحٍ‏)‏‏.‏

وللمرأة أيضاً مشاركة زوجها الرّأي بل ومعارضته، قال عمر بن الخطّاب‏:‏ «واللّه إن كنّا في الجاهليّة ما نعدّ للنّساء أمراً، حتّى أنزل اللّه فيهنّ ما أنزل، وقسم لهنّ ما قسم، قال‏:‏ فبينا أنا في أمرٍ أتأمّره إذ قالت امرأتي‏:‏ لو صنعت كذا وكذا، قال‏:‏ فقلت لها‏:‏ ما لك ولما ها هنا، فيما تكلُّفك في أمرٍ أريده‏؟‏ فقالت لي‏:‏ عجباً لك يا ابن الخطّاب، ما تريد أن تراجع أنت، وإنّ ابنتك لتراجع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتّى يظلّ يومه غضبان‏.‏ فقام عمر فأخذ رداءه مكانه حتّى دخل على حفصة، فقال لها‏:‏ يا بنيّة إنّك لتراجعين رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتّى يظلّ يومه غضبان‏؟‏ فقالت حفصة‏:‏ واللّه إنّا لنراجعه‏.‏ فقلت‏:‏ تعلمين أنّي أحذّرك عقوبة اللّه، وغضب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ يا بنيّة لا يغرّنّك هذه الّتي أعجبها حسنها حبّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إيّاها - يريد عائشة - قال‏:‏ خرجت حتّى دخلت على أمّ سلمة لقرابتي منها فكلّمتها، فقالت أمّ سلمة‏:‏ عجباً لك يا ابن الخطّاب، دخلت في كلّ شيءٍ، حتّى تبتغي أن تدخل بين رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأزواجه‏.‏ فأخذتني واللّه أخذاً كسرتني عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها، وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر، ونحن نتخوّف ملكاً من ملوك غسّان ذكر لنا أنّه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاريّ يدقّ الباب، فقال‏:‏ افتح افتح، فقلت‏:‏ جاء الغسّانيّ‏؟‏ فقال‏:‏ بل أشدّ من ذلك، اعتزل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أزواجه، فقلت رغم أنف حفصة وعائشة‏.‏ فأخذت ثوبي، فأخرج حتّى جئت، فإذا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في مشربةٍ له يرقى عليها بعجلةٍ، وغلام لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم أسود على رأس الدّرجة، فقلت له‏:‏ قل هذا عمر بن الخطّاب‏.‏ فأذن لي‏.‏ قال عمر‏:‏ فقصصت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، فلمّا بلغت حديث أمّ سلمة تبسّم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وإنّه لعلى حصيرٍ ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أَدَمٍ حشوها ليف، وإن عند رجليه قَرَظاً مصبوباً، وعند رأسه أهب معلّقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت، فقال‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ فقلت‏:‏ يا رسول اللّه، إنّ كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول اللّه، فقال‏:‏ أمّا ترضى أن تكون لهم الدّنيا ولنا الآخرة‏؟‏»

واستشارة المرأة فيما يتّصل بشئون النّساء أو فيما لديها خبرة به مطلوبة، بأصل ندب المشورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَمْرُهم شورى بينهم‏}‏ ولحديث أمّ سلمة أنّه‏:‏ «لمّا فرغ النّبيّ صلى الله عليه وسلم من كتاب الصّلح قال لأصحابه‏:‏ قوموا فانحروا ثمّ احلقوا، فما قام منهم رجل حتّى قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرّاتٍ، فلمّا لم يقم منهم أحد دخل على أمّ سلمة فذكر لها ما لقي من النّاس، قالت له‏:‏ يا نبيّ اللّه أتحبّ ذلك‏؟‏ اخرج ثمّ لا تكلّم أحداً منهم كلمةً، حتّى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلم يكلّم أحداً منهم حتّى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلمّا رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً»‏.‏

وللمرأة أن تعقد الأمان مع الكفّار، ويسري ذلك على المسلمين، ففي المغني‏:‏ إذا أعطت المرأة الأمان للكفّار جاز عقدها، وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها‏:‏ إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز، وعن أمّ هانئٍ أنّها قالت‏:‏ «يا رسول اللّه إنّي أجرت أحمائي وأغلقت عليهم، وإنّ ابن أمّي أراد قتلهم، فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد أجرنا من أجرت يا أمّ هانئٍ»، «وأجارت زينب بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زوجها أبا العاص بن الرّبيع قبل أن يسلم فأمضاه رسول اللّه»‏.‏

د - ذمّتها الماليّة‏:‏

13 - للأنثى ذمّة ماليّة مستقلّة كالرّجل، وحقّها في التّصرّف في مالها أمر مقرّر في الشّريعة ما دامت رشيدةً، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن آنَسْتم منهم رُشْداً فادفعوا إليهم أموالَهم‏}‏‏.‏ ولها أن تتصرّف في مالها كلّه عن طريق المعاوضة بدون إذنٍ من أحدٍ، وهذا باتّفاق الفقهاء‏.‏ أمّا تصرّفها في مالها عن طريق التّبرّع به، فعند جمهور الفقهاء‏:‏ يجوز لها التّصرّف في كلّ مالها بالتّبرّع عند الحنفيّة والشّافعيّة وابن المنذر وروايةٍ عن الإمام أحمد، لما روي أنّ النّبيّ قال‏:‏ «يا معشر النّساء تصدّقن ولو من حُليّكنّ» وأنّهنّ تصدّقن فقبل صدقتهنّ، ولم يسأل ولم يستفصل‏.‏ ولهذا جاز لها التّصرّف بدون إذنٍ لزوجها في مالها، فلم يملك الحجر عليها في التّصرّف بجميعه‏.‏

وعند الإمام مالكٍ، وفي روايةٍ عن الإمام أحمد‏:‏ أنّه يجوز لها التّبرّع في حدود الثّلث، ولا يجوز لها التّبرّع بزيادةٍ على الثّلث إلاّ بإذن زوجها‏.‏

ولأنّ للمرأة ذمّةً ماليّةً مستقلّةً فقد أجاز الفقهاء لها أن تضمن غيرها، جاء في المغني‏:‏ يصحّ ضمان كلّ جائز التّصرّف في ماله، سواء كان رجلاً أو امرأةً، لأنّه عمد يقصد به المال، فصحّ من المرأة كالبيع‏.‏

وهذا عند من يجيز لها التّبرّع بكلّ مالها، أمّا من لا يجيز لها التّبرّع بأكثر من الثّلث إلاّ بإذن زوجها، فإنّهم يجيزون لها الضّمان في حدود ثلث مالها أو بزائدٍ يسيرٍ باعتبار أنّ الضّمان من التّبرّعات، وأمّا ما زاد على الثّلث فإنّه يصحّ ويتوقّف على إجازة الزّوج‏.‏

هـ- حقّ العمل‏:‏

14 – الأصل أنّ وظيفة المرأة الأولى هي إدارة بيتها ورعاية أسرتها وتربية أبنائها وحسن تبعّلها، يقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيّتها»‏.‏ وهي غير مطالبةٍ بالإنفاق على نفسها، فنفقتها واجبة على أبيها أو زوجها، لذلك كان مجال عملها هو البيت، وعملها في البيت يساوي عمل المجاهدين‏.‏

ومع ذلك فالإسلام لا يمنع المرأة من العمل فلها أن تبيع وتشتري، وأن توكّل غيرها، ويوكّلها غيرها، وأن تتاجر بمالها، وليس لأحدٍ منعها من ذلك ما دامت مراعيةً أحكام الشّرع وآدابه، ولذلك أبيح لها كشف وجهها وكفّيها، قال الفقهاء‏:‏ لأنّ الحاجة تدعو إلى إبراز الوجه للبيع والشّراء، وإلى إبراز الكفّ للأخذ والإعطاء‏.‏

وفي الاختيار‏:‏ لا ينظر الرّجل إلى الحرّة الأجنبيّة إلاّ إلى الوجه والكفّين‏.‏‏.‏، لأنّ في ذلك ضرورةً للأخذ والإعطاء ومعرفة وجهها عند المعاملة مع الأجانب، لإقامة معاشها ومعادها لعدم من يقوم بأسباب معاشها‏.‏

والنّصوص الدّالّة على جواز عمل المرأة كثيرة، والّذي يمكن استخلاصه منها، أنّ للمرأة الحقّ في العمل بشرط إذن الزّوج للخروج، إن استدعى عملها الخروج وكانت ذات زوجٍ، ويسقط حقّه في الإذن إذا امتنع عن الإنفاق عليها‏.‏

جاء في نهاية المحتاج‏:‏ إذا أعسر الزّوج بالنّفقة وتحقّق الإعسار فالأظهر إمهاله ثلاثة أيّامٍ، ولها الفسخ صبيحة الرّابع، وللزّوجة - وإن كانت غنيّةً - الخروج زمن المهلة نهاراً لتحصيل النّفقة بنحو كسبٍ، وليس له منعها لأنّ المنع في مقابل النّفقة‏.‏

وفي منتهى الإرادات‏:‏ إذا أعسر الزّوج بالنّفقة خيّرت الزّوجة بين الفسخ وبين المقام معه مع منع نفسها، فإن لم تمنع نفسها منه ومكّنته من الاستمتاع بها فلا يمنعها تكسّباً، ولا يحبسها مع عسرته إذا لم تفسخ لأنّه إضرار بها وسواء كانت غنيّةً أو فقيرةً، لأنّه إنّما يملك حبسها إذا كفاها المئونة وأغناها عمّا لا بدّ لها منه‏.‏

وكذلك إذا كان العمل من فروض الكفايات‏.‏ جاء في فتح القدير‏:‏ إن كانت المرأة قابلةً، أو كان لها حقّ على آخر، أو لآخر عليها حقّ تخرج بالإذن وبغير الإذن، ومثل ذلك في حاشية سعدي جلبي عن مجموع النّوازل‏.‏ إلاّ أنّ ابن عابدين بعد أن نقل ما في الفتح قال‏:‏ وفي البحر عن الخانيّة تقييد خروجها بالإذن، لأنّ حقّه مقدّم على فرض الكفاية‏.‏

هذا، وإذا كان لها مال فلها أن تتاجر به مع غيرها، كأن تشاركه أو تدفعه مضاربةً دون إذنٍ من أحدٍ‏.‏ جاء في جواهر الإكليل‏:‏ قراض الزّوجة أي دفعها مالاً لمن يتّجر فيه ببعض ربحه، فلا يحجر عليها فيه اتّفاقاً، لأنّه من التّجارة‏.‏

15 - ثمّ إنّها لو عملت مع الزّوج كان كسبها لها‏.‏ جاء في الفتاوى البزّازيّة‏:‏ أفتى القاضي الإمام في زوجين سعيا وحصّلا أموالاً أنّها له، لأنّها معينة له، إلاّ إذا كان لها كسب على حدةٍ فلها ذلك‏.‏ وفي الفتاوى‏:‏ امرأة معلّمة، يعينها الزّوج أحياناً فالحاصل لها، وفي التقاط السّنبلة إذا التقطا فهو بينهما أنصافاً‏.‏

كما أنّ للأب أن يوجّه ابنته للعمل‏:‏ جاء في حاشية ابن عابدين‏:‏ للأب أن يدفع ابنته لامرأةٍ تعلّمها حرفةً كتطريزٍ وخياطةٍ‏.‏ وإذا عملت المرأة فيجب أن يكون في حدودٍ لا تتنافى مع ما يجب من صيانة العرض والعفاف والشّرف‏.‏ ويمكن تحديد ذلك بما يأتي‏:‏

1 - ألاّ يكون العمل معصيةً كالغناء واللّهو، وألاّ يكون معيباً مزرياً تعيّر به أسرتها‏.‏ جاء في البدائع والفتاوى الهنديّة‏:‏ إذا آجرت المرأة نفسها بما يعاب به كان لأهلها أن يخرجوها من تلك الإجارة، وفي المثل السّائر‏:‏ تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها، وعن محمّدٍ رحمه الله تعالى في امرأةٍ نائحةٍ أو صاحب طبلٍ أو مزمارٍ اكتسب مالاً فهو معصية‏.‏

2 - ألاّ يكون عملها ممّا يكون فيه خلوة بأجنبيٍّ‏.‏ جاء في البدائع‏:‏ كره أبو حنيفة استخدام المرأة والاختلاء بها، لما قد يؤدّي إلى الفتنة، وهو قول أبي يوسف ومحمّدٍ، أمّا الخلوة، فلأنّ الخلوة بالأجنبيّة معصية، وأمّا الاستخدام، فلأنّه لا يؤمن معه الاطّلاع عليها والوقوع في المعصية‏.‏ وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يخلونّ رجل بامرأةٍ إلاّ كان الشّيطان ثالثهما» ولأنّه لا يؤمن مع الخلوة مواقعة المحظور‏.‏

3 - ألاّ تخرج لعملها متبرّجةً متزيّنةً بما يثير الفتنة، قال ابن عابدين‏:‏ وحيث أبحنا لها الخروج فإنّما يباح بشرط عدم الزّينة وتغيير الهيئة إلى ما يكون داعيةً لنظر الرّجال والاستمالة، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَبرَّجْنَ تبرّجَ الجاهليّةِ الأولى‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يُبْدِينَ زينَتَهنّ إلاّ ما ظهرَ منها‏}‏، وفي الحديث‏:‏ «الرّافلةُ في الزّينة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها»‏.‏

ثالثاً‏:‏ الأحكام الّتي تتعلّق بالأنثى

للأنثى أحكام فقهيّة متنوّعة فمنها ما يختصّ بالعورة وما يتّصل بها، ومنها الأحكام الّتي تترتّب على ارتباطها بزوجٍ، ومنها الأحكام الخاصّة بالعبادات أو الولايات أو الجنايات‏.‏‏.‏ وهكذا‏.‏ وبيان ذلك فيما يأتي‏:‏

بول الأنثى الرّضيعة الّتي لم تأكل الطّعام

16 - يختلف الحكم في إزالة نجاسة بول الأنثى الرّضيعة الّتي لم تأكل الطّعام عن بول الذّكر الرّضيع الّذي لم يأكل الطّعام، وذلك عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ فيجزئ عندهم في التّطهير من بول الغلام نضحه بالماء ‏(‏أي أن يرشّه بالماء‏)‏ ولا يكفي ذلك في إزالة بول الأنثى، بل لا بدّ من غسله كغيره من النّجاسات، وذلك لحديث أمّ قيس بن محصنٍ «أنّها أتت بابنٍ لها صغيرٍ لم يأكل الطّعام إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأجلسه في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماءٍ فنضحه ولم يغسله»‏.‏ متّفق عليه، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّما يُغْسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذّكر»‏.‏

أمّا الحنفيّة والمالكيّة فلا يفرّقون بينهما فيغسل ما أصابه بول كلٍّ من الصّبيّ أو الصّيّبة لنجاسته، لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «استنزهوا من البول»‏.‏

الأحكام الّتي تتّصل بما تختصّ به من حيضٍ وحملٍ

17- من الفطرة الّتي خلق اللّه سبحانه وتعالى الإنسان عليها أنّ كلّاً من الذّكور والإناث يميل إلى الآخر، وجعل الاتّصال الشّرعيّ بينهما وسيلةً لامتداد الجنس البشريّ بالتّناسل والتّوالد‏.‏ واختصّ الأنثى من ذلك بأنّها هي الّتي تحيض وتحمل وتلد وترضع‏.‏

وهذه الأمور يترتّب عليها بعض الأحكام الفقهيّة نوجزها فيما يلي‏:‏

1 - يعتبر الحيض والحمل من علامات بلوغ الأنثى‏.‏

2 - التّخفيف عنها في العبادة في هذه الأحوال، فتسقط عنها الصّلاة أثناء الحيض دون قضاءٍ، ويجب عليها الإفطار مع القضاء في أيّامٍ أخر، وجواز الإفطار أثناء الحمل أو الرّضاعة، إن كان الصّيام يضرّ بها أو بولدها‏.‏

3 - والاعتبار بالحيض وبالحمل في احتساب العدّة‏.‏

4 - والامتناع عن قراءة القرآن، وعن دخول المسجد، وعن تمكين زوجها منها أثناء الحيض والنّفاس‏.‏

5 - ووجوب الغسل عند انقطاع دم الحيض والنّفاس‏.‏

وهذا في الجملة، وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏حيضٍ، حملٍ، نفاسٍ، رضاعٍ‏)‏‏.‏

لبن الأنثى

18 - لا يختلف لبن الأنثى بالنّسبة لطهارته عن لبن الذّكر - لو كان له لبن - فلبن الأنثى طاهر باتّفاقٍ‏.‏ ولكنّه يختلف عنه في أنّ لبن الأنثى يتعلّق به محرميّة الرّضاع‏.‏

أمّا الرّجل فلو كان له لبن فلا يتعلّق به التّحريم‏.‏ وللتّفصيل ينظر ‏(‏الرّضاع، والنّكاح‏)‏‏.‏

خصال الفطرة بالنّسبة للأنثى

19 - تختصّ المرأة من خصال الفطرة بأنّه يسنّ لها إزالة لحيتها لو نبتت‏.‏ والسّنّة في عانتها النّتف‏.‏ ولا يجب ختانها في وجهٍ وإنّما هو مكرمة‏.‏ وتمنع من حلق رأسها‏.‏

عورة الأنثى

20 - يرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة أنّ بدن الأنثى الحرّة البالغة كلّه عورة بالنّسبة للصّلاة عدا الوجه والكفّين، وهو الصّحيح من المذهب عند الحنابلة بالنّسبة للوجه، وفي روايةٍ بالنّسبة للكفّين، وفي الرّواية الأخرى هما عورة‏.‏

واختلف الحنفيّة في ظاهر الكفّين، ففي ظاهر الرّواية هما عورة، وفي شرح المنية‏:‏ الأصحّ أنّهما ليسا بعورةٍ، واعتمده الشّرنبلاليّ‏.‏

وأمّا القدمان فهما عورة عند المالكيّة والشّافعيّة غير المزنيّ، وهو المذهب عند الحنابلة، وهو رأي بعض الحنفيّة‏.‏ والمعتمد عند الحنفيّة أنّهما ليستا بعورةٍ، وهو رأي المزنيّ من الشّافعيّة، والشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة من الحنابلة‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏عورةٍ‏)‏‏.‏ والدّليل على أنّ بدن المرأة عورة قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المرأة عورة» وقوله‏:‏ «لا يَقْبَل اللّه صلاة حائضٍ إلاّ بخمارٍ» والمراد بالحائض البالغة‏.‏

انتقاض الوضوء بلمس الأنثى

21 - يختلف الفقهاء في انتقاض الوضوء بلمس الرّجل للأنثى المشتهاة‏.‏

فعند الحنفيّة، وفي روايةٍ عن الإمام أحمد أنّ الوضوء لا ينتقض باللّمس، لرواية عائشة رضي الله تعالى عنها‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبّل بعض نسائه، ثمّ صلّى ولم يتوضّأ» وروي ذلك عن عليٍّ وابن عبّاسٍ وعطاءٍ وطاوسٍ والحسن ومسروقٍ‏.‏

وعند المالكيّة ينتقض الوضوء باللّمس إن قصد اللّذّة أو وجدها حين اللّمس، وهو المشهور من مذهب أحمد رحمه الله، وهو أنّ لمس النّساء لشهوةٍ ينقض الوضوء، ولا ينتقض الوضوء إن كان اللّمس بغير شهوةٍ‏.‏ وهو قول علقمة وأبي عبيدة والنّخعيّ والحكم وحمّادٍ والثّوريّ وإسحاق والشّعبيّ‏.‏ والقبلة بالفم تنقض مطلقاً عند المالكيّة، أي دون تقييدٍ بقصد اللّذّة أو وجدانها، إلاّ إذا كانت لوداعٍ أو رحمةٍ فلا تنقض‏.‏

وعند الشّافعيّة، وفي روايةٍ ثالثةٍ عن الإمام أحمد‏:‏ أنّ اللّمس ينقض الوضوء بكلّ حالٍ، لعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أوْ لامَسْتُم النّساء‏}‏‏.‏

ولا ينتقض الوضوء بلمس الأنثى الصّغيرة الّتي لا تشتهى، وذلك عند المالكيّة والشّافعيّة‏.‏ وعند الحنابلة فيه الأقوال السّابقة‏.‏ ولا ينتقض الوضوء كذلك بلمس المحرم على الأصحّ عند المالكيّة، وفي الأظهر عند الشّافعيّة، وهو على الرّوايات السّابقة عند الحنابلة‏.‏

و ينظر تفصيل ذلك في ‏(‏وضوءٍ‏)‏‏.‏

حكم دخول المرأة الحمّامات العامّة

22 - ينبني حكم دخول النّساء الحمّامات العامّة على كشف العورة وسترها عند الحنفيّة والمالكيّة، فإن كانت العورة مستورةً، ولا ترى واحدة عورة الأخرى فالدّخول جائز، وإلاّ كان الدّخول مكروهاً تحريماً، كما يقول الحنفيّة، وغير جائزٍ كما يقول المالكيّة‏.‏

ولم يستحسنه الإمام مالك مطلقاً، وعند الشّافعيّة قيل‏:‏ يكره‏.‏ وقيل‏:‏ يحرم ولم يجوّزه الحنابلة، لما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ستفتح عليكم أرض العجم، وستجدون فيها حمّاماتٍ، فامنعوا نساءكم إلاّ حائضاً أو نفساء»‏.‏

وعلى ذلك فإنّه يجوز لها دخول الحمّام لعذرٍ من حيضٍ أو نفاسٍ أو مرضٍ‏.‏

المحافظة على مظاهر الأنوثة

23 - يعتني الإسلام بجعل الأنثى تحافظ على مظاهر أنوثتها، فحرّم عليها التّشبّه بالرّجال في أيّ مظهرٍ من لباسٍ أو حديثٍ أو أيّ تصرّفٍ‏.‏ وقد لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المتشبّهات من النّساء بالرّجال‏.‏ وفي الطّبرانيّ «أنّ امرأةً مرّت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم متقلّدةً قوساً، فقال‏:‏ لعن اللّه المتشبّهات من النّساء بالرّجال، والمتشبّهين من الرّجال بالنّساء»‏.‏ وقد ذكر ابن القيّم أنّ من الكبائر‏:‏ ترجّل المرأة وتخنّث الرّجل‏.‏

وقد أباح لها الإسلام أن تتّخذ من وسائل الزّينة ما يكفل لها المحافظة على أنوثتها، فيحلّ ثقب أذنها لتعليق القرط فيه‏.‏ يقول الفقهاء‏:‏ لا بأس بثقب آذان النّسوان، ولا بأس بثقب آذان الأطفال من البنات،«لأنّهم كانوا يفعلون ذلك في زمان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من غير إنكارٍ»، يقول ابن القيّم‏:‏ الأنثى محتاجة للحلية فثقب الأذن مصلحة في حقّها‏.‏

ويباح لها التّزيّن بلبس الحرير والذّهب دون الرّجال، لأنّه من زينة النّساء، فقد روى أبو موسى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «حرام لباس الحرير والذّهب على ذكور أمّتي، وأحلّ لإناثهم» قال ابن قدامة‏:‏ أبيح التّحلّي في حقّ المرأة لحاجتها إلى التّزيّن للزّوج والتّجمّل عنده‏.‏ كذلك يجوز لها أن تخضب يديها، وأن تعلّق الخرز في شعرها، ونحو ذلك من ضروب الزّينة‏.‏

وجوب التّستّر وعدم الاختلاط بالرّجال الأجانب

24 - إذا خرجت المرأة لحاجتها لا تخرج إلاّ متستّرةً‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ وحيث أبحنا لها الخروج فإنّما يباح بشرط عدم الزّينة، وعدم تغيير الهيئة إلى ما يكون داعيةً لنظر الرّجال والاستمالة، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَبَرَّجْنَ تبرّجَ الجاهليّةِ الأولى‏}‏‏.‏

قال مجاهد‏:‏ كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرّجال، فذلك تبرّج الجاهليّة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ كانت لهنّ مشية تكسّرٍ وتغنّجٍ، فنهى اللّه سبحانه وتعالى عن ذلك‏.‏

ولا يجوز أن تكون الثّياب الّتي تظهر بها أمام النّاس ممّا يظهر معه شيء من جسدها الواجب ستره، وكذلك إذا كان يشفّ عمّا تحته، لأنّه إذا استبان جسدها كانت كاسيةً عاريّةً حقيقةً‏.‏ وقد قال النّبيّ‏:‏ «سيكون في آخر أمّتي نساءٌ كاسياتٌ عاريّات، على رءوسهنّ كأسنمة البُخْت، الْعَنُوهنّ فإنّهنّ ملعونات»‏.‏

وفي الفواكه الدّواني‏:‏ لا يلبس النّساء من الرّقيق ما يصفهنّ إذا خرجن من بيوتهنّ، والخروج ليس بقيدٍ، وحاصل المعنى‏:‏ أنّه يحرم على المرأة لبس ما يرى منه جسدها بحضرة من لا يحلّ له النّظر‏.‏

ولا يجوز لها أن تأتي من الأعمال ما يلفت النّظر إليها ويترتّب عليه الافتتان بها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يَضْربن بأرجلهنّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفين من زينتهنّ‏}‏ قال ابن كثيرٍ‏:‏ كانت المرأة في الجاهليّة إذا كانت تمشي في الطّريق، وفي رجلها خلخال صامت لا يعلم صوته، ضربت برجلها الأرض فيسمع الرّجال طنينه، فنهى اللّه سبحانه وتعالى المؤمنات عن مثل ذلك، وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستوراً، فتحرّكت بحركةٍ لتظهر ما هو خفيّ دخل في هذا النّهي لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يَضْرِبْنَ بأرجلهنّ‏}‏‏.‏

ومن ذلك أنّها تنهى عن التّعطّر والتّطيّب عند خروجها من بيتها فيشمّ الرّجال طيبها، فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم «كلّ عينٍ زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرّت بالمجلس فهي كذا وكذا» يعني زانيةً‏.‏

ومن ذلك أيضاً أنّهنّ ينهين عن المشي في وسط الطّريق، لما روى حمزة بن أبي أسيدٍ الأنصاريّ عن أبيه أنّه «سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد، وقد اختلط النّساء مع الرّجال في الطّريق، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للنّساء‏:‏ استأخرن، فإنّه ليس لكنّ أن تحققن الطّريق، عليكنّ بحافّات الطّريق»‏.‏

ولا تجوز خلوة المرأة بالأجنبيّ ولو في عملٍ، والمراد بالخلوة المنهيّ عنها أن تكون المرأة مع الرّجل في مكان يأمنان فيه من دخول ثالثٍ‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ خلوة‏)‏‏.‏

قال أبو حنيفة‏:‏ أكره أن يستأجر الرّجل امرأةً حرّةً يستخدمها ويخلو بها، لأنّ الخلوة بالمرأة الأجنبيّة معصية‏.‏

وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يخلونّ رجل بامرأةٍ إلاّ كان الشّيطان ثالثهما»‏.‏

ويمنع الاختلاط المريب بين الرّجال والنّساء على ما سبق تفصيله في مصطلح ‏(‏اختلاط‏)‏‏.‏

الأحكام الّتي تخصّ النّساء بالنّسبة للعبادة

25 - الأصل أنّه لا فرق بين الرّجل والمرأة في أهليّة العبادة‏.‏

إلاّ أنّه نظراً لكونها مأمورةً بالتّستّر وعدم الاختلاط المريب بالرّجال الأجانب فإنّها تختصّ ببعض الأحكام في عباداتها‏.‏ ومن ذلك‏:‏

- أ - الأذان والإقامة‏:‏ فالأصل أنّها لا تؤذّن ولا تقيم ‏(‏ر‏:‏ أذان‏.‏ إقامة‏)‏‏.‏

- ب - ولا تؤمّ الرّجال، بل يكره لها عند بعض المذاهب أن تؤمّ النّساء‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ إمامة‏)‏‏.‏

- ت - ومنها صلاة الجماعة بإمامة إحداهنّ، فالأصل عند الحنفيّة والمالكيّة أنّ الجماعة غير مشروعةٍ لهنّ في تلك الحال، خلافاً للشّافعيّة والحنابلة القائلين بندبها لهنّ، ولو لم يؤمّهنّ رجال‏.‏ وتفصيل ذلك ينظر في ‏(‏صلاة الجماعة‏)‏‏.‏

- ث - ومنها حضور المرأة الجمعة والعيدين وصلاة الجماعة مع الرّجال‏:‏ فيجوز عند جمهور الفقهاء حضور المرأة صلاة الجماعة مع الرّجال في المسجد، وكذا حضورها الجمعة والعيدين‏.‏ وانظر للتّفصيل ‏(‏صلاة الجماعة‏.‏ صلاة الجمعة‏.‏ صلاة العيدين‏)‏‏.‏

ج - هيئتها في الصّلاة‏:‏

26- الأصل أنّه لا فرق بين الرّجال والنّساء في عمل العبادات، إلاّ أنّ المرأة تختصّ ببعض الهيئات في الصّلاة، وذلك كما يأتي‏:‏

يستحبّ أن تجمع المرأة نفسها في الرّكوع، فتضمّ مرفقيها إلى الجنبين ولا تجافيهما، وتنحني قليلاً في ركوعها، ولا تعتمد، ولا تفرّج بين أصابعها، بل تضمّها، وتضع يديها على ركبتيها، وتحني ركبتها، وتلصق مرفقيها بركبتيها‏.‏

وفي سجودها تفترش ذراعيها، وتنضمّ وتلزق بطنها بفخذيها، لأنّ ذلك أستر لها، فلا يسنّ لها التّجافي كالرّجال، لحديث زيد بن أبي حبيبٍ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ على امرأتين تصلّيان، فقال‏:‏ إذا سجدتما فضمّا بعض اللّحم إلى بعضٍ، فإنّ المرأة ليست في ذلك كالرّجل»‏.‏

ولأنّها عورة فالأليق بها الانضمام‏.‏ كذلك ينبغي لها أن تكثّف جلبابها وتجافيه راكعةً وساجدةً، لئلاّ تصفها ثيابها، وأن تخفض صوتها، وتجلس متربّعةً، لأنّ ابن عمر كان يأمر النّساء أن يتربّعن في الصّلاة، أو تسدل رجليها عن يمينها، وهو أفضل من التّربّع، لأنّه غالب فعل عائشة رضي الله تعالى عنها وأشبه بجلسة الرّجل، وهو ما قاله الإمام الشّافعيّ والإمام أحمد‏.‏

كما أنّه يستحبّ أن ينصرف النّساء عقب الصّلاة قبل الرّجال، حتّى لا يختلطن بالرّجال‏.‏

فقد روت أمّ سلمة قالت‏:‏ «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا سلّم قام النّساء حين يقضي تسليمه، وهو يمكث في مكانه يسيراً قبل أن يقوم‏.‏ قالت‏:‏ نرى - واللّه أعلم - أنّ ذلك كان لكي ينصرف النّساء قبل أن يدركهنّ الرّجال»‏.‏

ح - الحجّ‏:‏

27 - ما يتّصل بفرض الحجّ على المرأة أمران‏:‏

الأوّل‏:‏ بالنّسبة للوجوب‏.‏ وبيان ذلك كما يأتي‏:‏

من المقرّر أنّ الاستطاعة - بالزّاد والرّاحلة وغيرهما - من شرائط وجوب الحجّ مطلقاً، ويزاد على ذلك بالنّسبة للمرأة‏:‏ أن يكون معها زوج أو محرم، للأحاديث الّتي وردت في ذلك، وهذا باتّفاقٍ‏.‏ لكنّ الفقهاء يختلفون في وجوب الحجّ على المرأة دون زوجٍ أو محرمٍ‏.‏ فعند الحنفيّة، والمذهب عند الحنابلة‏:‏ أنّه لا يجب عليها الحجّ، لأنّها إذا لم يكن معها زوج ولا محرم لا يؤمن عليها، إذ النّساء لحم على وضمٍ، إلاّ ما ذبّ عنه‏.‏ وفي ذلك خلاف وتفصيل ينظر في ‏(‏حجٍّ‏)‏‏.‏

وهذا بالنّسبة لحجّ الفريضة، أمّا النّفل فلا يجوز لها الخروج له دون الزّوج أو المحرم‏.‏ الثّاني‏:‏ بالنّسبة لبعض الأعمال فالمرأة كالرّجل في أركان الحجّ والعمرة، إلاّ أنّها تختلف عنه في بعض الأعمال ومن ذلك‏:‏

أ - أنّها تلبس المخيط كالقميص والقباء والسّراويل والخفّين وما هو أستر لها، لأنّ بدنها عورة، ولا تنتقب ولا تلبس القفّازين‏.‏ وفي ذلك خلاف وتفصيل ‏(‏ر‏:‏ إحرام‏)‏‏.‏

ب - وليس على المرأة رمل في طوافها، ولا إسراع بين الميلين الأخضرين في السّعي، وليس عليها اضطباع أيضاً‏.‏ والمشروع للمرأة التّقصير دون الحلق‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ حجّ‏)‏‏.‏

ج - ولا ترفع المرأة صوتها بالتّلبية إلاّ بمقدار ما تسمع رفيقتها‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ حجّ‏.‏ تلبية‏)‏‏.‏

خ - الخروج من المنزل‏:‏

28 - إذا كانت المرأة متزوّجةً فإنّها ترتبط في خروجها من المنزل بإذن زوجها‏.‏

وقد روى ابن عمر قال‏:‏ «رأيت امرأةً أتت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقالت‏:‏ يا رسول اللّه ما حقّ الزّوج على زوجته‏؟‏ قال‏:‏ حقّه عليها أن لا تخرج من بيتها إلاّ بإذنه، فإن فعلت لعنها اللّه وملائكة الرّحمة وملائكة الغضب حتّى تتوب أو ترجع»، ولأنّ حقّ الزّوج واجب، فلا يجوز تركه بما ليس بواجبٍ‏.‏

وخروج الزّوجة من غير إذن زوجها يجعلها ناشزاً، ويسقط حقّها في النّفقة في الجملة، لكن لا ينبغي للزّوج أن يمنع زوجته من زيارة أبويها وعيادتهما، لأنّ عدم الزّيارة نوع من العقوق وقطيعة الرّحم‏.‏

كذلك لا ينبغي أن يمنعها من الصّلاة في المسجد وحضور الجمعة والعيدين ودروس الوعظ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تمنعوا إماء اللّه مساجد اللّه» وفي روايةٍ‏:‏ «إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها»‏.‏

لكن هذا مقيّد بما إذا أمن عليها، وكان لا يخشى الفتنة من خروجها، فإن كان يخشى الفتنة فله منعها‏.‏ وكره متأخّرو الحنفيّة خروجها ولو عجوزاً لفساد الزّمان، لما روي عن السّيّدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏‏"‏ لو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النّساء لمنعهنّ المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل ‏"‏‏.‏

د - التّطوّع بالعبادات‏:‏

29 - الزّوجة مرتبطة كذلك بإذن الزّوج في التّطوّع بالعبادات، فلا يجوز لها إذا كان زوجها حاضراً أن تتطوّع بصلاةٍ أو صومٍ أو حجٍّ أو اعتكافٍ بدون إذنه، إذا كان ذلك يشغلها عن حقّه، لأنّ حقّ الزّوج فرض، فلا يجوز تركه بنفلٍ، ولأنّ له حقّ الاستمتاع بها، ولا يمكنه ذلك أثناء الصّوم أو الحجّ أو الاعتكاف، وقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يحلّ للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد أي حاضر إلاّ بإذنه»‏.‏ رواه البخاريّ‏.‏

فإن تطوّعت بصومٍ أو حجٍّ أو اعتكافٍ دون إذنه فله أن يفطرها في الصّوم، ويحلّلها من الحجّ، ويخرجها من الاعتكاف لما فيه من تفويت حقّ غيرها بغير إذنه، فكان لربّ الحقّ المنع‏.‏ وهذا باتّفاقٍ، واستثنى الشّافعيّة الصّوم الرّاتب كعرفة وعاشوراء، فلا يمنعها منه لتأكّده، وكذلك صلاة النّفل المطلق لقصر زمنه‏.‏

وإن أذن الزّوج لها أن تتطوّع بصومٍ أو اعتكافٍ أو حجٍّ، فعند الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ له أن يمنعها من الصّوم أو الاعتكاف ولو كانت شرعت فيه، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة وحفصة وزينب رضي الله تعالى عنهن في الاعتكاف، ثمّ منعهنّ منه بعد أن دخلن فيه، فقد أخرج الشّيخان عن عائشة «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فاستأذنته عائشة فأذن لها، وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها ففعلت، فلمّا رأت ذلك زينب بنت جحشٍ أمرت ببناءٍ فبني لها‏.‏ قالت‏:‏ وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا صلّى انصرف إلى بنائه، فأبصر الأبنية فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ بناء عائشة وحفصة وزينب‏.‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ آلبرّ أردن بهذا‏؟‏ ما أنا بمعتكفٍ»‏.‏ وعند الحنفيّة ليس له أن يمنعها، لأنّه لمّا أذن لها فقد ملّكها منافع الاستمتاع بها، وهي من أهل الملك فلا يملك الرّجوع عن ذلك‏.‏

وعند المالكيّة‏:‏ له أن يمنعها ما لم تشرع في العبادة، فإن شرعت فلا يمنعها‏.‏

وما أوجبته المرأة على نفسها بنذرٍ، فإن كان بغير إذنه فله أن يمنعها منه، وهذا باتّفاقٍ‏.‏ وإن كان بإذنه، فإن كان في زمانٍ معيّنٍ فليس له منعها منه‏.‏ وإن كان في زمانٍ مبهمٍ، فله المنع عند المالكيّة إلاّ إذا دخلت فيه، وهو على وجهين عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

ما يتعلّق بالأنثى من أحكام الولايات

30 - الولايات - كالإمامة والقضاء والوصاية والحضانة وغيرها - مناصب تحتاج إلى استعداداتٍ خاصّةٍ، بدنيّةٍ ونفسيّةٍ، كالقوّة والكفاية والخبرة والرّعاية والحنان وحسن التّصرّف‏.‏ وتختلف الولايات عن بعضها فيما تحتاج إليه من صفاتٍ‏.‏

وإذا كان الرّجال مقدّمين في بعض المناصب على النّساء، فذلك لفارق التّكوين الطّبيعيّ لكلٍّ منهما، ولما منح اللّه سبحانه وتعالى كلّ جنسٍ من صفاتٍ خاصّةٍ‏.‏

وكذلك تقدّم النّساء في بعض الولايات، لتناسبها مع تكوينهنّ واستعدادهنّ الفطريّ‏.‏

قال القرافيّ‏:‏ اعلم أنّه يجب أن يقدّم في كلّ ولايةٍ من هو أقوم بمصالحها على من هو دونه، فيقدّم في ولاية الحروب من هو أعرف بمكائد الحروب وسياسة الجيوش، ويقدّم في القضاء من هو أعرف بالأحكام الشّرعيّة وأشدّ تفطّناً لحجاج الخصوم وخدعهم‏.‏

ويقدّم في أمانة اليتيم من هو أعلم بتنمية أموال اليتامى وتقدير أموال النّفقات‏.‏

والنّساء مقدّمات في باب الحضانة على الرّجال لأنّهنّ أصبر على الصّبيان وأشدّ شفقةً ورأفةً‏.‏ فقدّمن لذلك وأخّر الرّجال عنهنّ، وأخّرن في الإمامة والحروب وغيرهما من المناصب، لأنّ الرّجال أقوم بمصالح تلك الولايات منهنّ‏.‏

والقضاء من الولايات الّتي يقدّم فيها الرّجال عند جمهور الفقهاء‏.‏

ويجوز عند الحنفيّة أن تقضي في غير حدٍّ وقودٍ، إلاّ أنّه يكره توليتها القضاء، ويأثم من يولّيها، لما فيه من محادثة الرّجال، ومبنى أمرهنّ على السّتر، قال ابن عابدين‏:‏ ولو قضت في حدٍّ وقودٍ فرفع إلى قاضٍ آخر يرى جوازه، فأمضاه ليس لغيره إبطاله‏.‏

وحكي عن ابن جريرٍ الطّبريّ أنّه لا تشترط الذّكوريّة في القاضي، لأنّ المرأة يجوز أن تكون مفتيةً، فيجوز أن تكون قاضيةً‏.‏

ومن الولايات الّتي يصحّ أن تسند إلى الأنثى‏:‏ الشّهادة والوصاية ونظارة الوقف، قال ابن عابدين‏:‏ تصلح المرأة ناظرةً لوقفٍ ووصيّةً ليتيمٍ وشاهدةً، فصحّ تقريرها في النّظر والشّهادة في الأوقاف‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ تصحّ الوصيّة إلى المرأة في قول أكثر أهل العلم، وروي ذلك عن شريحٍ، وبه قال مالك والثّوريّ والأوزاعيّ وإسحاق والشّافعيّ وأبو ثورٍ وأصحاب الرّأي، لما روي أنّ عمر رضي الله عنه أوصى إلى حفصة، ولأنّها من أهل الشّهادة فأشبهت الرّجل‏.‏ قال الخطيب الشّربينيّ‏:‏ أمّ الأطفال أولى من غيرها من النّساء عند اجتماع الشّروط، لوفور شفقتها وخروجها من خلاف الإصطخريّ، فإنّه يرى أنّها تلي بعد الأب والجدّ، وكذا هي أولى من الرّجال أيضاً لما ذكر، إذا كان فيها ما فيهم من الكفاية والاسترباح ونحوهما، وإلاّ فلا، قال الأذرعيّ‏:‏ وكم من محبٍّ مشفقٍ لا يقدر على تحصيل الأرباح والمصالح التّامّة لمن يلي أمره‏.‏

هذا، وشهادتها عند الجمهور تكون في الأموال وتوابعها فقط، وعند الحنفيّة تكون فيما عدا القود والحدود، وشهادتها على النّصف من شهادة الرّجل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لم يَكُونا رجلين فَرَجُلٌ وامرأتان‏}‏ وتقبل شهادتها دون الرّجال فيما لا يطّلع عليه الرّجال‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏شهادةٍ‏)‏‏.‏

والولاية على مال الصّغير تكون للذّكور عند جمهور الفقهاء، لأنّ الولاية ثبتت بالشّرع، فلم تثبت للأنثى، لكن يجوز أن يوصي إليها، فتصير وصيّةً بالإيصاء‏.‏ وفي رأي الإصطخريّ من الشّافعيّة، وهو خلاف الأصحّ عندهم، وقول القاضي أبي يعلى، وابن تيميّة من الحنابلة‏:‏ أنّ الأمّ تكون لها الولاية بعد الأب والجدّ، لأنّها أحد الأبوين، وأكثر شفقةً على الابن‏.‏ ولا ولاية للأنثى كذلك في النّكاح عند جمهور الفقهاء، لأنّ المرأة لا تملك تزويج نفسها ولا غيرها، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تنكح المرأة المرأة، ولا المرأة نفسها»‏.‏ وعند أبي حنيفة وزفر والحسن بن زيادٍ، وهو ظاهر الرّواية عن أبي يوسف‏:‏ أنّ المرأة يجوز أن تزوّج نفسها، وأن تزوّج غيرها بالولايات أو الوكالة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا جُنَاحَ عليكم فيما فَعَلْنَ في أنفسهنّ من معروفٍ‏}‏ فأضاف النّكاح والفعل إليهنّ، وذلك يدلّ على صحّة عبارتهنّ ونفاذها، لأنّه أضافه إليهنّ على سبيل الاستقلال، إذ لم يذكر معها غيرها، وقد روي أنّ امرأةً زوّجت بنتها برضاها، فجاء الأولياء وخاصموها إلى عليٍّ رضي الله تعالى عنه، فأجاز النّكاح‏.‏ وهذا دليل الانعقاد بعبارة النّساء، وأنّه أجاز النّكاح بغير وليٍّ، لأنّهم كانوا غائبين، لأنّها تصرّفت في خالص حقّها، ولا ضرر فيه لغيرها، فينفذ، كتصرّفها في مالها، والولاية في النّكاح أسرع ثبوتاً منها في المال، ولأنّ النّكاح خالص حقّها، حتّى يجبر الوليّ عليه عند طلبها، وهي أهل لاستيفاء حقوقها‏.‏ وتفصيل ذلك في ‏(‏نكاحٍ‏)‏‏.‏

ما يتّصل بالمرأة من أحكام الجنايات

31 - يرى عامّة العلماء أنّه لا فرق بين الرّجل والمرأة في أحكام القصاص في الجملة، فالأنثى تقتل بالذّكر، والذّكر يقتل بالأنثى‏.‏ وأمّا الدّيات، فبعض الفقهاء ذهب إلى أنّ دية المرأة نصف دية الرّجل‏.‏ وفي ذلك تفصيل ينظر في ‏(‏ديةٍ‏)‏‏.‏

أنثى الحيوان

32 - تختصّ أنثى الحيوان بأحكامٍ مجملها فيما يلي‏:‏

أ - زكاة الإبل‏:‏

الأصل فيما يؤخذ في زكاة الإبل الإناث، ويجوز عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أخذ ابن اللّبون بدلاً من بنت المخاض عند فقدها، أو عند وجودها إن كانت معيبةً، وأمّا عند الحنفيّة فإنّ الذّكور لا تجزئ في زكاة الإبل إلاّ بقيمة الإناث‏.‏

هذا بخلاف البقر والغنم، فإنّ المالك يخيّر‏.‏ هذا، والتّفصيل محلّه مصطلح ‏(‏زكاةٍ‏)‏‏.‏

ب - في الأضحيّة‏:‏

ذكر الشّافعيّة كما في الأشباه والنّظائر للسّيوطيّ أنّ التّضحية بالذّكر أولى من التّضحية بالأنثى في المشهور‏.‏ والتّفصيل محلّه مصطلح ‏(‏أضحيّةٍ‏)‏‏.‏

ج - الدّية‏:‏

الدّية المغلّظة إذا كانت من الإبل فكلّها من الإناث عند جميع الفقهاء، وكذا الدّية المخفّفة عند الحنفيّة، ويجوز عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة دخول الذّكور في الدّية المخفّفة‏.‏ والتّفصيل محلّه مصطلح ‏(‏دية‏)‏‏.‏

إهاب

التّعريف

1 - الإهاب في اللّغة‏:‏ الجلد من البقر والغنم والوحش ما لم يدبغ‏.‏

وظاهر هذا أنّ جلد الإنسان لا يسمّى إهاباً‏.‏

ويطلق الفقهاء الإهاب على ما يطلقه عليه أهل اللّغة‏.‏ قال في فتح القدير‏:‏ الإهاب‏:‏ اسم لغير المدبوغ من الجلد‏.‏ والجلد أعمّ من أن يكون مدبوغاً أو غير مدبوغٍ‏.‏

واستعمال الفقهاء الجلد لما هو أعمّ من جلد الحيوان، فيشمل جلد الإنسان‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالإهاب

أ - جلد المذكّى ذكاةً شرعيّةً‏:‏

2 - الحيوانات على نوعين‏:‏ حيوانات مأكولة اللّحم، وحيوانات غير مأكولة اللّحم‏.‏ فالحيوانات مأكولة اللّحم إذا ذبحت الذّبح الشّرعيّ كان جلدها طاهراً بالاتّفاق، وإن لم يدبغ‏.‏ أمّا الحيوانات غير المأكولة اللّحم فهي على نوعين أيضاً‏:‏ نجسة في حال الحياة، وطاهرة‏.‏ أمّا نجسة العين، وهي الخنزير بالاتّفاق، والكلب عند الشّافعيّة والحنابلة، فإنّ الذّكاة لا تطهّر جلدها‏.‏

وأمّا غير نجسة العين ممّا لا يؤكل لحمه، فقد اختلف الفقهاء في تطهير إهابها بالذّكاة، فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يطهر بالذّبح، وحجّة هؤلاء أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «نهى عن افتراش جلود السّباع وركوب النّمور»‏.‏ وهو عامّ في المذكّى وغيره، ولأنّه ذبح لا يطهّر اللّحم فلم يطهّر الجلد، كذبح المجوسيّ أو أيّ ذبحٍ غير مشروعٍ، فأشبه الأصل، ثمّ إنّ الدّبغ إنّما يؤثّر في مأكول اللّحم فكذلك ما شبّه به‏.‏

وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى طهارة الإهاب بالذّكاة الشّرعيّة، واستدلّ هؤلاء بقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «دباغ الأديم ذكاته»، ولأنّ الذّكاة تعمل عمل الدّباغ في إزالة الرّطوبات النّجسة، أمّا النّهي عن افتراش جلود السّباع وركوب النّمور فلأنّ ذلك مراكب أهل الخيلاء، أو لأنّهم كانوا يستعملونها من غير أن تدبغ‏.‏

واستثنى الحنفيّة من ذلك إهاب الحيوان الّذي لا يحتمل الدّباغة، كإهاب الفأرة، وإهاب الحيّة الصّغيرة - لا ثوبها - فإنّه لا تطهّره الذّكاة‏.‏

ب - إهاب الميتة‏:‏

3 - إهاب الميتة نجس بلا خلافٍ، ولا يجوز الانتفاع به قبل الدّباغ بالاتّفاق، إلاّ ما روي عن محمّد بن شهابٍ الزّهريّ من جواز الانتفاع بجلود الميتة قبل الدّباغ، فإذا دبغ فقد اختلف الفقهاء في طهارته بعد الدّباغ على اتّجاهاتٍ‏.‏

4 - الاتّجاه الأوّل‏:‏

أنّه لا يطهر شيء من الجلود بالدّباغة، وهو أشهر الرّوايتين عن الإمام أحمد، وإحدى الرّوايتين عن الإمام مالكٍ، قال النّوويّ‏:‏ وروي هذا القول عن عمر بن الخطّاب - وليس بمحرّرٍ عنه كما حقّقناه - وعن عبد اللّه بن عمر، وعن عائشة أمّ المؤمنين، واستدلّ هؤلاء بما رواه عبد اللّه بن عكيمٍ من أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال قبل موته بشهرٍ‏:‏ «لا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ ولا عصبٍ»‏.‏

5- الاتّجاه الثّاني‏:‏

أنّ جلود الميتة كلّها - ومنها الكلب والخنزير - تطهر بالدّباغة ظاهراً وباطناً، وهذا المذهب مرويّ عن الإمام أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، ونصره الشّوكانيّ في نيل الأوطار، واستدلّ هؤلاء بعموم الأحاديث، إذ أنّ الأحاديث لم تفرّق بين خنزيرٍ وغيره‏.‏

6- الاتّجاه الثّالث‏:‏

يطهر بالدّباغة جلود جميع الحيوانات الميّتة إلاّ الخنزير، ويطهر بالدّباغ ظاهر الجلد وباطنه، ويجوز استعماله في الأشياء اليابسة والمائعة، ولا فرق في ذلك بين مأكول اللّحم وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة، واحتجّوا لذلك بقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا دبغ الإهاب فقد طهر»، وأمّا استثناء الخنزير فقد كان بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لحمَ خِنْزيرٍ فإنّه رجْسٌ‏}‏ حيث جعلوا الضّمير في ‏(‏إنّه‏)‏ عائداً إلى المضاف إليه، وهو كلمة ‏(‏خنزيرٍ‏)‏‏.‏

7- الاتّجاه الرّابع‏:‏

كالثّالث، إلاّ أنّهم قالوا‏:‏ إنّ الدّباغة لا تطهّر جلد الخنزير والكلب، حيث قاسوا الكلب على الخنزير للنّجاسة، وهو مذهب الشّافعيّ ومحمّد بن الحسن، وحكاه النّوويّ عن عليّ بن أبي طالبٍ وابن مسعودٍ‏.‏

8- الاتّجاه الخامس‏:‏

كالثّالث إلاّ أنّهم قالوا‏:‏ إنّ الدّباغة لا تطهّر جلد الخنزير والكلب والفيل، وهو قول الإمام محمّد بن الحسن صاحب أبي حنيفة‏.‏

9- الاتّجاه السّادس‏:‏

يطهر بالدّباغة جلد مأكول اللّحم ولا يطهر غيره، وهو مذهب الأوزاعيّ وعبد اللّه بن المبارك وأبي ثورٍ وإسحاق بن راهويه، واستدلّ هؤلاء بقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الأهب‏:‏ «دباغها ذكاتها» أي كذكاتها ‏(‏والذّكاة‏)‏ المشبّه بها في الحديث لا يحلّ بها غير المأكول، فكذلك ‏(‏الدّباغ‏)‏ المشبّه لا يطهّر جلد غير المأكول‏.‏

10 - الاتّجاه السّابع‏:‏

يطهر بالدّباغ ظاهر جلد الميتة دون باطنه، وعلى هذا فإنّه يحلّ الانتفاع به في الأشياء اليابسة دون المائعة، وهو المشهور من مذهب الإمام مالكٍ رحمه الله تعالى‏.‏

وشبيه بهذا الاتّجاه إحدى الرّوايتين عند الحنابلة، وهي جواز الانتفاع بجلد الميتة المدبوغ في اليابسات‏.‏

ذبح الحيوان غير المأكول من أجل إهابه

11 - اختلف الفقهاء في حلّ ذبح أو صيد غير مأكول اللّحم من أجل الانتفاع بجلده أو شعره أو ريشه‏.‏

فذهب الشّافعيّة إلى تحريم ذبح ما لا يؤكل، كبغلٍ وحمارٍ للانتفاع بجلده، «للنّهي عن ذبح الحيوان إلاّ لمأكلةٍ»‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى حلّ اصطياد ما لا يؤكل لحمه، لمنفعة جلده أو شعره أو ريشه، لأنّ الانتفاع غاية مشروعة‏.‏ وهو ما يفهم من مذهب المالكيّة في اعتبار المنفعة مسوّغاً لذكاة ما لا يؤكل‏.‏ ولم نعثر على مذهب الحنابلة في ذلك‏.‏

بيع الحيوان من أجل إهابه

12- اختلف الفقهاء في جواز بيع الحيوان الّذي لا ينتفع به حيّاً من أجل إهابه، فقال الشّافعيّة‏:‏ لا يجوز بيعه، وفي ذلك يقول القاضي زكريّا الأنصاريّ‏:‏ بيع غير الجوارح المعلّمة كالأسد والذّئب باطل، ولا نظر لمنفعة الجلد بعد الموت، ولا لمنفعة الرّيش‏.‏

وقد تقدّم أنّ الشّافعيّة والحنابلة لا يبيحون ذبح الحيوان من أجل جلده‏.‏

وقال الحنفيّة والمالكيّة‏:‏ يجوز بيع الحيوان الّذي لا ينتفع به حيّاً، كالسّبع غير المعلّم والهرّ ونحوه للجلد، لأنّهم اعتبروا الانتفاع بالجلد منفعةً مشروعةً مقصودةً، فصار الحيوان منتفعاً به، فيجوز بيعه‏.‏

سلخ إهاب الذّبيحة

13 - اتّفق الفقهاء على كراهة سلخ إهاب الذّبيحة قبل زهوق روحها، لنهي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ففي حديث أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعث بديل بن ورقاء الخزاعيّ على جملٍ أورق، يصيح في فجاج منًى‏:‏ «لا تعجّلوا الأنفس أن تزهق»‏.‏ ولما في ذلك من زيادة ألم الحيوان، وليس هذا من إحسان الذّبحة الّذي أمر به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ «وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبح»‏.‏

فإن سلخ إهابها قبل أن تزهق روحها فقد أساء، وجاز أكلها، لأنّ زيادة ألمها لا تقتضي تحريم أكلها‏.‏

بيع إهاب الأضحيّة وما في معناه

14 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز أن يدفع الإهاب ولا شيء من الأضحيّة إلى الجزّار أجرةً له على ذبحها‏.‏ ولكنّهم اختلفوا في جواز بيع جلد الأضحيّة‏.‏

فذهب الحسن البصريّ والنّخعيّ وأبو حنيفة، وروي ذلك عن الأوزاعيّ إلى جواز بيعه مقايضةً بآلة البيت كالغربال والمنخل ونحو ذلك، ممّا تبقى عينه دون ما يستهلك، لأنّه ينتفع به هو وغيره، فجرى مجرى تفريق اللّحم، فإن باعه بدراهم كره له ذلك وجاز، إلاّ أن يتصدّق بالثّمن فلا يكره عند محمّدٍ خاصّةً، وروي عن ابن عمر وإسحاق بن راهويه‏.‏ وذهب الأئمّة الثّلاثة مالك والشّافعيّ وأحمد إلى أنّه لا يجوز بيع إهاب الأضحيّة مطلقاً لا بآلة البيت ولا بغيرها‏.‏ أمّا الكلام عن دباغ الإهاب فينظر في ‏(‏دباغةٍ‏)‏‏.‏

إهانة

التّعريف

1 - الإهانة في اللّغة‏:‏ مصدر أهان، وأصل الفعل هان بمعنى ذلّ وحقر، وفيه مهانة أي‏:‏ ذلّ وضعف، والإهانة من صور الاستهزاء والاستخفاف‏.‏

وقد سبق الكلام عن الاستخفاف في مصطلحه ‏(‏ج 3 248‏)‏‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - الإهانة تعتبر مدلولاً لبعض التّصرّفات القوليّة كالسّبّ والشّتم، أو الفعليّة كالضّرب وما شابهه ممّا يعتبر إهانةً، وهي ترد عند الفقهاء باعتبارين مختلفين‏:‏

الأوّل‏:‏ باعتبار أنّ الإهانة مدلول لتصرّفاتٍ تستوجب العقوبة‏.‏

3 - وبذلك تكون الإهانة أمراً غير مشروعٍ، ويكون الحكم بحسب قدر المهان، وبحسب عظم الإهانة وصغرها‏.‏

فالإهانة الّتي تلحق بالعقيدة والشّريعة كالسّجود لصنمٍ، أو إلقاء مصحفٍ في قاذورةٍ، أو كتابته بنجسٍ، أو سبّ الأنبياء والملائكة، أو تحقير شيءٍ ممّا علم من الدّين بالضّرورة تعتبر كفراً‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ ردّة - استخفاف‏)‏‏.‏

والإهانة الّتي تلحق بالنّاس بغير حقٍّ من سبٍّ وشتمٍ وضربٍ، تعتبر معصيةً‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ قذف، تعزير، استخفاف‏)‏‏.‏ على أنّ من الأفعال ما يكون في ظاهره إهانة، لكن القصد أو الضّرورة أو القرائن تبعده عن ذلك، فالبصاق على اللّوح لا يعتبر إهانةً، إذا قصد به الإعانة على محو الكتابة‏.‏ ولو أشرفت سفينة على الغرق، واحتيج إلى إلقاء حملٍ من المصاحف مثلاً جاز ذلك، لأنّ حفظ الرّوح مقدّم، والضّرورة تمنع كونه امتهاناً‏.‏

الاعتبار الثّاني‏:‏ بمعنى العقوبة‏:‏

4 - فتكون الإهانة عقوبةً مقرّرةً، سواء أكانت بالقول أم بالفعل‏.‏ فأخذ الجزية من الكفّار تكون مع الإهانة لهم‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عن يَدٍ وهم صَاغِرون‏}‏‏.‏ وكإهانة من يعتدي على غيره بشتمٍ مثلاً، جاء في منح الجليل‏:‏ من شتم رجلاً بقوله له‏:‏ يا كلب فإن قيل ذلك لذي الفضل والهيئة والشّرف عوقب عقوبةً خفيفةً يهان بها، ولا يبلغ به السّجن، وإن كان من غير ذوي الهيئة عوقب بالتّوبيخ، ولا يبلغ به الإهانة ولا السّجن‏.‏ وكإهانة الابن والتّلميذ للتّأديب والتّعليم‏.‏

وتختلف الإهانة كعقوبةٍ باختلاف مقدار الإهانة كعدوانٍ، وباختلاف قدر المهان‏.‏

وللإهانة كعقوبةٍ مسمّيات مختلفة عند الفقهاء، فقد تسمّى حدّاً أو تعزيراً أو تأديباً‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ حدّ، تعزير، تأديب‏)‏‏.‏

مواطن البحث

5 - الإهانة هي عدوان من جانبٍ، وتأتي في أبواب الرّدّة والقذف غالباً، وهي عقوبة من جانبٍ آخر، وتأتي في التّعزير، والرّدّة، والقذف‏.‏

وينظر مع ذلك بحث ‏(‏استخفافٍ، وامتهانٍ‏)‏‏.‏

إهداء

انظر‏:‏ هديّة‏.‏

أهل

انظر‏:‏ آل‏.‏

أهل الأهواء

التّعريف

1- الأهواء مفردها‏:‏ هوًى‏:‏ وهو محبّة الإنسان الشّيء وغلبته على قلبه‏.‏

وهو في الاصطلاح‏:‏ ميل النّفس إلى خلاف ما يقتضيه الشّرع‏.‏

وأهل الأهواء من المسلمين هم‏:‏ من زاغ عن الطّريقة المثلى من أهل القبلة كالجبريّة، وهم الّذين يقولون‏:‏ إنّ الإنسان لا كسب له ولا اختيار، وكالقدريّة وهم الّذين ينكرون القدر، ويقولون‏:‏ إنّ الأمر أنف لم يسبق به علم اللّه، وقد تسمّى الجبريّة ‏(‏قدريّةً‏)‏ لأنّهم غلوا في إثبات القدر، وكالمعطّلة وهم الّذين ينفون صفات الخالق عزّ وجلّ، وكالمشبّهة وهم الّذين يجعلون صفاته تعالى من جنس صفات المخلوقين، ونحوهم‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المبتدعة‏:‏

2 - المبتدعة من لهم طريقة في الدّين مخترعة تضاهي الشّرعيّة، يقصد بالسّلوك عليها ما يقصد بالطّريقة الشّرعيّة‏.‏

ب - الملاحدة‏:‏

3 - الملاحدة والزّنادقة والدّهريّون - هم الّذين لا يؤمنون باللّه تعالى ولا بمحمّدٍ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وعلى هذا فالفرق بينهم وبين أهل الأهواء كبير، إذ أنّ أهل الأهواء من جملة المسلمين، يؤمنون باللّه تعالى وبمحمّدٍ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

مناظرة أهل الأهواء وكفّ شبههم

4 - ينبغي لعلماء المسلمين أن يأخذوا أهل الأهواء بالحجّة، ويكشفوا شبههم، ويبيّنوا لهم فساد مذهبهم، وصحّة مذهب أهل السّنّة، ليدينوا بالحقّ الّذي رضي اللّه تعالى لعباده، أو ليجتنبهم العامّة، وليس للعامّة أن ينظروا في كتبهم، بل عليهم هجرهم، فقد كان السّلف ينهون عن مجالسة أهل البدع والنّظر في كتبهم والاستماع لكلامهم‏.‏

هجر أهل الأهواء

5- الأصل أنه يحرم هجران المسلم فوق ثلاث إلا لوجه شرعي، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يَحِلُ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فَيُعْرض هذا وَيُعْرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام»‏.‏

وقد اعتبر السلف وجمهور الأئمة الابتداع في العقائد من الأسباب المشروعة للهجر، وأوجبوا هجر أهل الأهواء من المبتدعة، الذين يجاهرون ببدعتهم أو يدعون إليها‏.‏

توبة أهل الأهواء

أهل الأهواء على نوعين‏:‏

6 - باطنيّة وغير باطنيّةٍ‏:‏ أمّا الباطنيّة‏:‏ فهم الّذين يظهرون غير ما يبطنون، فهم يظهرون الصّوم والصّلاة، ويبطنون القول بالتّناسخ وحلّ الخمر والزّنى، والقول في محمّدٍ صلى الله عليه وسلم بما لا يليق‏.‏

وقد اختلف العلماء في قبول توبة هؤلاء على قولين‏:‏

الأوّل‏:‏ أنّهم لا تقبل توبتهم، لأنّ نحلهم تبيح لهم أن يظهروا غير ما يبطنون، واللّه تعالى يقول‏:‏ ‏{‏إلاّ الّذين تابوا وأصلحوا وبَيَّنُوا‏}‏ وهؤلاء الباطنيّة لا تظهر منهم علامة تبيّن رجوعهم وتوبتهم، لأنّهم كانوا مظهرين للإسلام مسرّين للكفر، وإلى هذا ذهب عليّ بن أبي طالبٍ وابن عمر والمالكيّة والحنابلة والحنفيّة والشّافعيّة في المفتى به عندهم، واللّيث بن سعدٍ وإسحاق بن راهويه وغيرهم‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّهم تقبل توبتهم كسائر أهل الأهواء - كما سيأتي - وهو أحد القولين عند الحنفيّة والشّافعيّة، ولكنّها لا تقبل إن كانت بعد أخذهم، كما يقول الحنفيّة‏.‏

7- وأمّا غير الباطنيّة فهم الّذين يكون سرّهم كعلانيتهم ونحوهم، وهؤلاء قد اختلف الفقهاء في قبول توبتهم‏.‏

فالجمهور على قبول توبتهم، وإن اشترط البعض كالمرّوذيّ تأجيلهم سنةً حتّى يعلم إخلاصهم في توبتهم، أخذاً من تصرّف عمر بن الخطّاب مع صبيغ بن عسلٍ التّميميّ حين انتظر به سنةً، فلمّا علم صدق توبته عفا عنه‏.‏

وذهب البعض ومنهم ابن شاقلا الحنبليّ إلى أنّه لا تقبل توبتهم، واحتجّ لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من سنّ سُنّةً سيّئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»‏.‏ وما روى أبو حفصٍ العكبريّ بإسناده عن أنسٍ مرفوعاً «أنّ اللّه احتجر التّوبةَ على صاحب بدعةٍ»‏.‏

والجدير بالذّكر أنّ هذه التّوبة لا يترتّب عليها من الآثار إلاّ الآثار الدّنيويّة فحسب، من حيث استحقاقه التّعزير وعدم استحقاقه، أمّا فيما بينه وبين اللّه تعالى فإنّ أمره موكول إليه‏.‏ فإن كان صادقاً في توبته تجاوز اللّه عنه إن شاء، وإن لم يكن صادقاً في توبته، ردّت وخاب وخسر‏.‏

عقوبة أهل الأهواء

8 - إذا كانت البدعة الّتي ينتحلها أهل الأهواء مكفّرةً فإنّهم يعاملون معاملة المرتدّين، ويطبّق عليهم حدّ الرّدّة‏.‏

أمّا إن لم تكن مكفّرةً فإنّ عقوبتهم التّعزير بالاتّفاق، ويفرّق بين الدّعاة منهم وبين غير الدّعاة، فغير الدّعاة يعزّرون بالضّرب أو الحبس، أو بما يغلب على الظّنّ أنّه نافع بهم، وكره الإمام أحمد حبسهم، وقال‏:‏ إنّ لهم والداتٍ وأخواتٍ‏.‏

أمّا الدّعاة منهم والرّؤساء فيجوز أن يبلغ بهم التّعزير إلى القتل سياسةً، قطعاً لدابر الإفساد في الأرض، وعلى هذا الحنفيّة، وطائفة من أصحاب الشّافعيّ، وأصحاب أحمد، وكثير من أصحاب الإمام مالكٍ رحمهم اللّه تعالى‏.‏

شهادة أهل الأهواء

9 - اختلف الفقهاء في قبول شهادة أهل الأهواء الّذين لا يحكم بكفرهم، فذهب مالك وأحمد بن حنبلٍ وشريك وأبو عبيدٍ القاسم بن سلّامٍ - وأبو ثورٍ إلى ردّ شهادتهم لأنّهم فسقة، ولا يعذرون بالتّأويل‏.‏

وذهب الحنفيّة والشّافعيّة ومحمّد بن أبي ليلى وسفيان الثّوريّ إلى قبول شهادة أهل الأهواء، إلاّ الخطّابيّة، فإنّهم لا تقبل شهادتهم‏.‏

وقد فرّق الشّافعيّة في قبول شهادة أهل الأهواء بين الدّعاة وغيرهم، فقبلوا شهادة العامّة منهم، وردّوا شهادة الدّعاة لأنّهم مفسدون في الأرض، وقد احتجّ هؤلاء في قبول شهادة أهل الأهواء بأنّ الهوى ناشئ عن التّعمّق في الدّين، وذلك يصدّه عن الكذب‏.‏

وإنّما ردّوا شهادة الخطّابيّة منهم لأنّهم يعتقدون أنّ أصحابهم لا يكذبون - أي يعتقدون أنّ كلّ من كان على عقيدتهم لا يكذب - فإذا رأوه في قضيّةٍ شهدوا له بمجرّد التّصديق، وإن لم يعلموا حقيقة الحال‏.‏

رواية أهل الأهواء للحديث

10 - اختلف العلماء في قبول رواية أهل الأهواء للحديث‏.‏

فقد منع الرّواية عنهم ابن سيرين ومالك، وابن عيينة والحميديّ ويونس بن أبي إسحاق وعليّ بن حربٍ وغيرهم‏.‏ وحجّة هؤلاء‏:‏

أنّ أهل الأهواء‏:‏ إمّا كفّار أو فسّاق، ولا تحلّ الرّواية عن هؤلاء، ولأنّ في ترك الرّواية عنهم إهانةً لهم وهجراً، ونحن مأمورون بذلك ردعاً لهم عن الهوى، ولأنّ الهوى لا يؤمن معه الكذب، لا سيّما إذا كانت الرّواية ممّا يعضّد هوى الرّاوي‏.‏

ورخّص أبو حنيفة والشّافعيّ ويحيى بن سعيدٍ وعليّ بن المدينيّ وغيرهم في الرّواية عن أهل الأهواء، إذا عرفوا بالصّدق ولم يتّهموا بالكذب كالخوارج، دون من يتّهم من أهل الأهواء بالكذب‏.‏ وفرّق جماعة بين الدّاعية من أهل الأهواء وغيره، فمنعوا الرّواية عن الدّاعية منهم دون غيره، ومن هؤلاء ابن المبارك وعبد الرّحمن بن مهديٍّ، وأحمد بن حنبلٍ ويحيى بن معينٍ، حتّى قال في فواتح الرّحموت‏:‏ وعلى هذا أئمّة الفقه والحديث كلّهم، ولأنّ المحاجّة والدّعوة إلى الهوى سبب داعٍ إلى التّقوّل، فلا يؤمن على حديثه‏.‏

وفرّق جماعة بين من يغلو في هواه ومن لا يغلو، وقريب من هذا قول يفرّق بين البدع المغلّظة، كالتّجهّم والقدر، والبدع المخفّفة ذات الشّبهة كالإرجاء‏.‏ قال الإمام أحمد بن حنبلٍ في رواية أبي داود‏:‏ احتملوا من المرجئة الحديث، ويكتب عن القدريّ إذا لم يكن داعيةً‏.‏

إمامة أهل الأهواء في الصّلاة

11-اختلف الفقهاء في الاقتداء بأهل الأهواء في الصّلاة‏.‏

فذهب الحنابلة في إحدى الرّوايتين عندهم إلى أنّه لا يجوز الاقتداء بأهل الأهواء مطلقاً، فإن اقتدى بهم فصلاته باطلة‏.‏

وفرّقوا في روايةٍ أخرى بين الاقتداء بالمجاهر بهواه وبدعته الدّاعي إليها، وبين من ليس كذلك، فأجازوا الاقتداء بالمستسرّ بها، وأبطلوه بالمجاهر والدّاعي‏.‏

وذهب المالكيّة‏:‏ إلى أنّه إن اقتدى بأحدٍ من أهل الأهواء، وجبت عليه الإعادة في الوقت، لأنّه مختلف في كفرهم‏.‏

وذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى جواز الاقتداء بأهل الأهواء مع الكراهة التّنزيهيّة‏.‏

أهل البيت

انظر‏:‏ آل‏.‏